بقلم … غادة فاضل فطوم
صحوة الكلام …
حملت كيس أمتعتها ورمت به أمامها في الحافلة الّتي تنقلها صباحاً إلى مكان عملها الجديد، هي لا تذكر مايمّر بها الآن، بل لا تنسى حلب بكل بهائها، بقلعتها بأحيائها بمدينتها وريفها الّذي كانت تجوبه مع أطفالها، كيف حدث ما حدث؟ لفترة قريبة كانت الأسرة تعيش بهناءٍ ودفءٍ وبالأمس القريب كانت النّزهات تطرق صدى حياتها بالضّحكات، مازال صدى الأشياء خلف الباب تغمره كلّ يوم وتحاول أن تبثّ الحياة فيه، يا ربّ لِمَ جرى ما جرى؟؟
بعد أن أخذت مكانها كان ذهنها يسبح مع سرعة الحافلة، وحين تتوقّف تنتبه إلى نفسها وتلاحظ أنّ الآخرين ينظرون لها باستغراب فهي حتّى الآن لم تحاسب السّائق الّذي ملأ صراخه الفراغ وهو ينادي مستفسراً عمن لم يحاسبه بعد، فجأةً تعود لوعيها وتنقده حقّه لكن بعد إسماعها كلاماً قاسياً لعدم دفعها للأجرة أوّل صعودها، وصلت للمكان الّذي تريد. تترجّل وئيدةً بكلّ أجزائها، جسدها، أفكارها، نظرها، كلّما فيها من حياة يدلّ على موتٍ بطيءٍ ومع هذا هي يجب أن تستمرّ وعليها أن تتابع، فلا بدّ من نهاية لكلّ ما يجري لا بدّ من أن تعود الحياة وحتى لو خسرت الرّهان يجب أن تفعل شيئاً بتلك الأسرار الّتي خبّأتها.
وصلت إلى المنزل الّذي أعطوها عنوانه حاولت أن تستكشف طبيعته، فالباب الحديديّ الكبير الضّخم يدلّ على طبيعة من يقطن خلفه، قبل أن تطرق أو تقدم على أيّ خطوة فتح الباب وكان هناك رجلٌ استقبلها أنت؟؟؟
نعم أنا الّتي تحدثت قبل قليل..
أومأ إليها بالدّخول فدخلت سبقها وقبل أن تبادر إليه بالسّؤال:السّيّدة بانتظارك
اجتازت ممرّاً طويلاً زيّنته الأشجار حتّى وصلت باباً خشبيّا كبيراً، تحدّث نفسها: يبدو أنّني ظلمت السّكّان ها هم يتعاملون مع الخشب، نعم الخشب ألطف ويدلّ على طبيعة الإنسان، ربّما هم وسط بين القوّة والضًعف، لن أحكم قبل أن ألتقيَ بهم.كان الرّخام الّذي يتقدّم مدخل المنزل بلون الغيم بين الرّماديّ والأبيض لكنّه أنيق بأناقة صاحب المكان ربّما كان أنيقاً أم لا، لايهمّ المهم أنّني وجدت مكاناً يضمّني وحزني ولا يقاسمني الحزنَ إلا أنا.
فُتِحَ الباب الخشبي وبدت شابّةٌ أشارت لها بالدّخول فدخلت، كلّ ما حولها كان ضرباً من الخيال، أيُّ عالم هذا الّذي قدمت إليه وأيُّ بشر يقطنون قصراً ونحن نعاني ما نعانيه من فقرٍ وخرابٍ وتهجيرٍ وفقدٍ وغيابٍ؟! ياإلهي كأنّ ألف ليلة وليلة لم تُقَصَّ بعدُ أو تصادف المكان.
لم تأخذ مكانا لتجلس بل وقفت تندهش ممّا حولها، سمعت سيّدةً تخاطبها تفضّلي، تلتفت نحوها هي متوسًطة العمر تسألها أأعجبك المكان؟
نع نع نعم سيّدتي المكان بأهله، تضحك السيّدة مخاطبةً إيّاها: اسمعي يا… أصحيحٌ أن اسمك زمرّدة؟
نعم نعم سيدتي هو اسمي.
إذا ما عليك يا زمرّدة سوى اتّباع التّعليمات، وإن نجحت بإتقان العمل سيكون لك أجرٌ مرتفعٌ.
حاضر ياسيّدة لكن ما هو عملي؟؟ أنا أشاهد أكثر من شخص هنا والمكان يعجّ بالعمال سواءٌ في الحديقة أو داخل المنزل.
صحيح وأنت لك عملك أيضا، تجلس أمامها وجها لوجه، وتخاطبها: اسمعي أنت عملك مرافقتي داخل المنزل وخارجه، فداخله لك عملك وخارجه أيضا، مبدئيّا فرحت بأنها لن تحبس في هذا المكان، بل ستطوف مع سيّدتها وتشاهد النّاس تتحدّث معهم يحدّثونها وتندمج في مجتمع ليس مجتمعها.
في يومها الأوّل درّبتها السّيّدة على كلِّ شيء، وفي اليوم الثّاني كانت كمن تخلّى عن إنسانيّتها، في اليوم الثّالث حزمت أسرارها الّتي قدمت بها وعادت من حيث أتت.
الرَصيف كان أصدقَ من هؤلاء النّاس وبيع الخبز لمتلهّفٍ مسرعٍ لعمله أو امرأةٍ تحمل طفلها تحاول الوصول إلى بيتها بعد يوم عمل طويل بسرعة لتكمل مهامها، أو طالب تأخّر عن مدرسته، أجدى من الجلوس يوماً كاملاً بلا عمل سوى التّباهي أمام الآخرين ومن امرأةٍ مثلها تتباهى بما تقدِّمه لها من خدماتٍ وعنايةٍ بلباسها وجسدها وأظافرها وحمام البخار والسّاونا وكلّ ما هو بعيد عن طيبتها وبساطتها.
في ذاك المنزل غربةٌ تُحاك من قبل الأشخاص، وفي مسكنها القديم غربةٌ من نوعٍ آخرَ غربةٌ صنعتها الطّبيعة، وحرب لم يسلم منها كبير أو صغير، ومع هذا كانت أكوام أسرارها تزداد يوماً بعد الآخر، ورائحةُ الخبز السّاخن الّذي تبتاعه كان يأخذها لعالمٍ آخرَ لقمحِ البيادر ولطاحونة القرية ولمستودعٍ خبّؤوا فيه مؤونة أيامٍ قادمةٍ قاسيةٍ بشتائها ومدفأة تصرخ نارها حين تقمّر خبز الضّيعة والشّاي الخمير، يا لتلك الأيّام سُرقت منّا على غفلةٍ أو صحوةٍ أو إهمالٍ وأيضا يقرِّبها من أولادها الّذين كبروا مع بداية الأحداث وشاخوا، ولم يغادروا حلب وانقطعت أخبارهم منذ زمن.
تعود لمكانها، يومها كان حافلا بالذَكريات والألم، تحاول فتح الباب الخشبيّ لكنّه بدا كأنّه موصدٌ من الدّاخل، تطرق عليه طرقاتٍ عدّة تشعر بأن هناك أحداً ما قد أوصده بإحكام، عدّة طرقاتٍ ويُفتَح الباب الخشبيّ القديم المتهالك تحاول أن تدخل لكنّ شيئا ما تصطدم به، ماهذا من سمح لك باستخدام المكان تجيبها امرأة أنا سمحت لنفسي! من أعطاك الحقّ؟ أنا أعطيته لنفسي!هنا تحاول أن تقتحم ملكها لكن، تقف بوجهها قائلة:اسمعي أسرارك أنا امتلكتها وكلّ ما خبأت صار لي ولن أتنازل عمّا غنمت.
لو سمحت أنا لا مكان لي إلّا هذا أين أذهب؟ هذا ليس شأنا أُفكّر فيه إنّ لي مشاغلي، وأسرارك الّتي باتت بين يدي، بدا اليأس على صاحبة المنزل طوت خطواتها جلست قليلاً ثم نهضت لتغادر من أمام دارها..خطوةٌ خطوتان ثلاث خطواتٍ وأربع فجأة تسمع صوتاً جميلاً يناديها هذا الصوت ليس غريبا عنها، عودي لنتقاسم أسرارك.نعم هذا الصّوت تعرفه جيداً إنّها هي..
هي أمّا نفسها تقف منادية إيّاها بكلّ ثقة ترى ما الّذي تبتغيه؟
ماذا تريد؟هيه اسمعي:
أنا وأنت سنتابع معا لن أتركك لمصيرك هكذا !
تنظر لصاحبة الصّوت تلاحظ الشبه الكبير الّذي بينهما.
تقاسيم الوجه، وشكل الجسد لكنّ صوتها كان أكثر قوّة تصعق كمن مسّها تيار كهرباء حين تجد نفسها هي الّتي تتكلّم، وتتابع لتتحرّر من سجن الكتب والأقلام والدّفاتر.
يوميّات امرأة دمشقية
بقلم … غادة فاضل فطوم
من مجموعة (بسمة عشتار)







































Discussion about this post