“خريطة إلى الجحيم”
بقلم / أيمن دراوشة
قصة قصيرة حقيقية
—
كُنتُ أبحث عن العزلة… لا عن الرّعب. حين قرّرت أن أقضي يومًا بعيدًا عن صخب المدينة وضوضائها، لم أكن أعلم أنَّ الهدوء قد يتحوّل في لحظة إلى لعنة تتسلّل كالدّخان إلى شرايين الذّاكرة. حملت حقيبتي، واستعنت بخارطة رقميّة أرسلتها لي إدارة المزرعة، وانطلقت بسيارتي في طريقٍ طويلٍ نحو ما ظننته راحة.
كلّ شيء كان يسير كما خطّطت… حتّى خذلتني التّقنيّة.
توقّفت الخريطة فجأة، وكأنّها اختارت أن تبتلعني بين دروبٍ لا يعرفها بشر. الطّريق الّذي سلكته قادني إلى صحراء نَسِيَها الزّمان؛ صخورٌ متناثرة، أشجار بريّة بأغصانٍ ملتوية كأنّها أذرع مخلوقات أسطوريّة، وسكونٌ كثيف يخنق أنفاسي. لا إشارة للهاتف، ولا حتّى طيف نجمة تهديني السّبيل.
الكلاب كانت أوّل من شعر بوجودي.
نباحها قطع السّكون، وما لبثتْ أن أحاطت بسيّارتي، تزمجر وتخدّش الزّجاج بمخالبها الجائعة. أغلقت النّوافذ، أطفأت الأنوار، وضغطت على دوّاسة البنزين بكلّ ما أوتيت من رعب… ابتعدت، لكنّ شيئًا ما كان يلاحقني: ليس الكلاب هذه المرّة، بل الخوف.
أعدت تشغيل الهاتف، فقط لأجد الخرائط تُشير إلى أماكن بأسماءٍ كُتبت بحبر الرّعب: “مزرعة الفردوس”، “مزرعة الرّاحة”… لكنّها لم تكن مقصدي. بدأت أشعر أنّني لست وحدي. لا، ليس أشباحًا. بل شيء أعمق… حضورٌ يراقب من بين الظّلال.
ستّ ساعات تفصلني عن الفجر… ستّ ساعاتٍ من الوحدة في بطن العدم.
خرجت من السّيارة. كانت الأرض تحتي تحتوي جذورًا ملتفّة، وكأنّها كانت تنتظر خطاي. سمعت أصواتًا بشريّة، لكنّها بلا اتّجاه، تتقافز كهمساتٍ من عالمٍ آخر. تمنّيت وجود أيّ بشريّ… حتّى لو كان شيطانًا بهيئة إنسان.
ثمّ… لمحت الضّوء.
كان خافتًا، بعيدًا، لكنّه حقيقيّ. راودتني ذكرى “عقلة الإصبع”، ذلك الضّوء الّذي يقود إلى الغول. لكنّني لستُ طفلاً؛ لأخاف، والآن تائه على حافة الانهيار. عدت إلى سيارتي، وقُدت باتجاه الضّوء، متجاهلًا الرّجفة في يدي وصوت قلبي الّذي بات يطرق ضلوعي كمن يريد الفرار من صدري.
عندما اقتربت، وجدت خيمة. عائلةٌ تخيِّم هناك… رجل منهم اقترب منّي، وجهه كان مريحًا، لكنّ الظّلال في عينيه قالت أكثر ممّا نطق لسانه. سألني إن كنت تائهًا، أجبته أنّني أبحث عن مزرعة العزّ… هز رأسه وقال: “لم أسمع بها يومًا”
كاد قلبي يسقط في قاع معدتي، لولا أنّه اتّصل من هاتفه بإدارة المزرعة… أخيرًا عثرت على الخيط.
قادني خلفه بسيارته خارج الصّحراء، لنصف ساعةٍ شعرت أنّها نصف عمر. حين وصلت إلى الشّارع، استقبلني دليلٌ من المزرعة. عندها فقط، عرفت أنّني نجوت.
لكنّني ما زلت أتساءل حتّى الآن…
تلك الأماكن الّتي ظهرت على الخريطة، الأصوات الّتي لم أجد مصدرها، والضّوء الّذي بدا وكأنّه دعوة من المجهول…
هل كانت مجرّد هلوسات من عقلٍ خائف؟
أم أنّ الصّحراء تُخفي في جوفها حكاياتٍ لم تُروَ بعد؟
النهاية







































Discussion about this post