في قلبِ الصَّحراءِ الكُبرى، حيثُ تَمتدُّ الرِّمالُ بلا نِهاية، وتتناثرُ النَّخيلُ كأنَّها نُجومٌ على بَساطٍ ذهبيّ، تَنبثقُ “تيميمون” كجَوهَرةٍ نادرة، تُضيءُ عَتمةَ المدى بجَمالِها الآسرِ وسُكونِها المَهيب.
إنَّها ليست مجرَّد واحَة، بل هي أسطورةٌ محفورةٌ في الطِّينِ الأحمر، وذَاكرةٌ نابضةٌ بالدِّفءِ والتَّاريخ، مدينةٌ تتوشَّحُ بالحُمرَة وتتنفَّسُ عبقَ الأصالة، فاستحقَّت بجدارةٍ لَقَب “لُؤلُؤة الصَّحراء” و”الواحَة الحمراء”.
في تيميمون، يَتَعانقُ المعمارُ التَّقليديُّ مع روحِ الصَّحراءِ، وتَروي الرِّمالُ قِصصَ العابرين، بينما يَنسُجُ الغُروبُ على كثبانِها لَوحةً لا تُشبهُ سِواها، تُدهِشُ العَينَ وتُلامِسُ الرُّوح.
في أعماقِ الجنوبِ الجزائريّ، وعلى ارتفاعِ 288 مترًا عن سطحِ البحر، تتربَّع “تيميمون” شامخةً بهدوئِها، مُتربِّعةً على عرشِ الجَمالِ الصَّحرَاوِيّ، تُنسَبُ إلى مَنطِقة قُورارة، وتقعُ شمالَ ولايةِ أدرار، على بُعد 210 كيلومتراتٍ منها، وما يُقارِبُ 1400 كيلومترٍ عن العاصمةِ الجزائريَّة.
يُطلِقُ عليها الزُّوَّارُ لَقبَ “لُؤلُؤةِ الصَّحراء”، وهو وَصفٌ يُجسِّدُ سِحرَها الأخَّاذ، فهي تَتميَّزُ بِطابعٍ معماريٍّ فَريد، حيث تُحاصرُها الهِضابُ والتِّلالُ الصَّغيرة من كُلِّ الجِهات، فتمنَحُها عُزلةً مُحبَّبة، تَجعَلُها مَلاذًا لكلِّ مَن يَنشُدُ السَّكينةَ والطُّمأنينةَ في قلبِ الصَّحراء.
تيميمون ليست مجرَّد مدينة، بل لَوحةٌ فنيَّةٌ حيَّة، تَمتزجُ فيها واحاتُ النَّخيلِ الكثيفةُ مع النَّباتاتِ الصَّحرَاويَّة، والقُصورُ العتيقةُ المُشيَّدةُ وسطَ الكُثبانِ الرَّملِيَّة. ويَزدادُ هذا المشهدُ سِحرًا حينَ يَغيبُ قُرصُ الشَّمس، فينحسرُ ضوءُ النَّهارِ بين رُبَى الرِّمال، لتَلتقيَ الشَّمسُ بالأرضِ في مشهدٍ لا يُرى إلّا في رِحابِ الصَّحراءِ الشاسعة.
أوَّلُ ما يَشُدُّ انتباهَ الزَّائرِ هو اللَّونُ الأحمرُ الطَّاغي على المباني، فمنازِلُ المدينةِ وقُصورُها مَبنيَّةٌ من الطُّوبِ الأحمرِ المحلِّي، ما مَنحَها اسم “الواحَة الحمراء”. ويَقطُنُ المدينةَ حوالي أربعةُ آلافِ نَسَمة، مُوزَّعين على نحوِ أربعينَ قصرًا تقليديًّا، تُعرَفُ مَحلِّيًّا بتجمُّعاتٍ سُكَّانيَّةٍ مُحاطةٍ بالحُقولِ وبساتينِ النَّخيل، ومن أبرزِها: ماسين، بَني مِهلال، بُدريان، وتِنركو.
وسطَ هذا الجمال، تَحكي “القَصَبات” – وهي البيوتُ التَّقليديَّةُ المَبنيَّةُ بالطُّوبِ الأحمر – فُصولًا مَجهولةً من التَّاريخ، حيث يُجسِّدُ كُلُّ جدارٍ منها عَبَقَ الماضي ورَهافةَ الحِسِّ الفِطريِّ الذي زَيَّنَ حياةَ السُّكَّان.
ويُروى في الأساطيرِ الشَّعبيَّة أنَّ المدينةَ تعودُ تسميتُها إلى قائِدٍ محلِّيٍّ يُدعى “سيدي ميمون”، الَّذي سَعى إلى توحيدِ القَبائلِ المُتناحرة قديمًا، فأنشأ سوقًا كبيرًا حَمَل اسمَه، ومع مرورِ الزَّمن، تَحوَّل الاسمُ من “تِين ميمون” (أي التَّابع لِميمون) إلى “تيميمون”.
وتُشيرُ بعضُ المَصادرِ التَّاريخيَّة إلى بُروزِ تيميمون منذ القرنِ الثَّاني عشر الميلادي، حينَ أصبحت مَلاذًا للمُجاهدين والمُقاومين الفارِّين من قَبضةِ الغُزاة. وتُعدُّ العديدُ من قُصورِها شاهدةً على تِلك الحِقبة، مثل قصر “إيغرر”، الَّذي يَحتوي على أربعةِ أبراجِ مُراقبةٍ كانت تُستخدَمُ لِرَصدِ تحرُّكاتِ الأعداء.
ولم تكن مواقعُ القُصورِ عشوائيَّة، فقد بُنيَت فوق التِّلالِ لغاياتٍ استراتيجيَّة، تُمكِّنُ من المُراقبةِ والدِّفاع، فضلًا عن وُجودِ كُهوفٍ طبيعيَّةٍ اتُّخذَت مَخابئَ آمنةً في أوقاتِ الحربِ والاضطرابات.
تُعدُّ تيميمون اليومَ من أبرزِ الوُجهاتِ السِّياحيَّة الَّتي تَستقطبُ الزُّوَّارَ الأوروبِّيِّين، خاصَّةً في فصلِ الشِّتاءِ، لما تَتمتَّعُ به من طَقسٍ دافئ، وليالٍ صَحرَاويَّةٍ حالِمَة، وطُقوسٍ ساحرةٍ للسَّهرِ تحت السَّماءِ المُوشَّاةِ بالنُّجوم.
تيميمون ليست مجرَّد واحَة، بل ذَاكِرةُ وطن، وقِطعةٌ من الحَنين، وزَخرفةٌ حمراءُ على جَبينِ الصَّحراءِ الجزائري
بقلم حجاج أول عويشة
عن الأنترنت بتصرف
Discussion about this post