…
(1)
حلوة عيونُ الحالمين في باب توما
حلوة حلوة
أولئكَ الّذين شيّدوا أزقّةً حجريّةً
بالحِمَمِ والأظفارِ والرّموز
مظلّاتُهم على السّطوح ترنو إلى الله
ووعودُهُم تُكوِّرُ الجهاتِ بلا ارتيابٍ
يعزفونَ اللحنَ مرَّةً واحدة
ويُخلِّدهُ على الجدرانِ
رجُلٌ بخّاخٌ من مجدِ الأسرار الغابرة.
…
تولدُ الكلماتُ من حنينِ كَمَانٍ طَموح
وتعرف الدّروبُ على أيّةِ جهةٍ في القلبِ تميلُ
عشرونَ عاماً، وأنا أُقبِّلُ بابَ توما
أُراقِبُ كطفلٍ مدهوشٍ كيف تُوقِعُ بوّابةٌ مُعتِمةٌ
الحمامَ في غرامها
وكيف تنتقم مشربيَّةٌ مُزركشةٌ
من غزاةٍ يُكرِّرونَ الغوايةَ نفسَها.
…
عشرونَ عاماً، وتسعةُ مصابيحَ ثوريّة:
وأنا أُعيدُ صياغةَ المعجزة
تنخفض سماءُ الحريق قليلاً
تحطُّ غيمةٌ غيمة في صحون البيوت العربيّة
تستنشق ما تستطيع من الياسمين
وما لا تستطيع
تُحرِّرُهُ عَراضةٌ شاميّةٌ
تيهاً على شرفات المَجاز.
(2)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
في ساحة باب توما صوَّرتُكِ
كنتِ دُرَّةَ قوسِ الفرادة
كُلَّما تقدَّمَ نهداكِ خطوةً
دوَّرتُ سوقَ مدحت باشا
على سور الشّام القديم
حدّاً بلا حدٍّ يألفُهُ الجنونُ
مثلما يخطُّ بردى الذّهبيُّ الفقيرُ
خصراً مُشترَكاً
لباب توما والقصّاع.
…
كنتُ شاعراً أكثَر ممّا يسمح به الخرابُ
مشيتُ أهجسُ بالبِنى والبناء
الرّؤى تستدرج اختراقاً مريراً
وأنا لم أقسِ المواعيدَ على خُمولٍ مُهترئ
لا يتلو الدَّليلُ السِّياحيُّ الجمالَ من كتابٍ
هي حروفٌ متحفّزة كالنّراجيلِ
تُدغدِغُ رحمَ الحفريّاتِ تحت بيتٍ عتيقٍ يتداعى
وتقطف ثمار التّوتِ الأحمَرِ فوق بِركَةٍ تُجوِّدُ القرآنَ.
…
من مقهى النَّوفرة
إلى قلعة دمشق
صافحَ المسكُ
أهدابَ المكتبة الظّاهريّة
قبَّلَ سوقُ الحميديّة
قصرَ العظم
وارتمى إيوانٌ بكاملِ أُصُصِهِ
في أحضانِ خان أسعد باشا.
…
تدلَّلي يا امرأةً
كغزالةٍ تتبختر بين الأواني الفضّيّة
علِّقي الأزياءَ الشعبيَّةَ
على مشجبِ الفُلِّ والحِنّة
وعمِّدي بالطّيبِ السّحريِّ
أعشابَ البزوريّة.
…
تدلَّلي ودلِّلي شعوبَكِ المُهاجِرة تحتَ الجلد
لكِ في فضاء الأرابيسك مدىً يورق بالمقامات الشّرقيّة
ولنا بينَ خصلاتكِ الطّائرة فرعٌ جديدٌ من نهر بردى.
(3)
– هذهِ ليستْ نزهةُ مديحٍ للشام
التّفكيكُ إنذارٌ غنائيٌّ يتواصل بالنّارِ
والنّداءُ طوّافاتُ عُبورٍ بلا وجلٍ.
…
هنا سبع مدنٍ تُذيبُ الموسوعاتِ
في كؤوسِ التّمر هندي
هنا العطرُ مُجنَّدٌ تحت إمرةِ الغواية
لا شيءَ يُفلِتُ من تعاويذِ الفيضِ
ولا شيءَ يُتقنُ الكنايات
كالبخورِ الهائمِ
عليلاً
بين
القناديل.
…
هنا فنونُ الأنوثةِ مكشوفةً لقمر الدّين
هنا ما يُكوِّرُ الوركَ العريقَ في حمّامٍ شرقيّ
استعصى على حيازةِ المخطوطات
وهنا اختصارُ البديهيّات بانسيابِ الحريرِ سرداً وخُطى
البدائلُ لا تكون بلا جرائمَ جَماليّة تنبسطُ سجّاداتٍ سجّادات
والفخاخُ أنْ يقذفنا المقدَّسُ في عطلةٍ كونيَّةٍ دائمة
الولاداتُ وهجٌ فسيحٌ كبستان هشام
وأوجُ الحياةِ والموتِ
لثمُ أندلسٍ فوق ظَهر الغياب.
…
هنا..
ما لم يتغيَّر في العالَم
وما تغيَّرَ
الغموضُ يلفُّ الأنفاسَ
والياقةُ متردّدةٌ
السّلالمُ أكثَرُ من عزلاء
والقناطرُ مُوغِلةٌ في الوحشة
الأحجارُ مُهمَلةٌ
والرّوائحُ دمارُ الأجوبةِ دفعةً واحدة
هَوادِجُ الإناثِ يَعبرنَ
وفي أيديهنَّ الجوّالاتُ الحديثة
الإناثُ الأجمَلُ في التاريخ
وأنا الغريبُ
كالنّسائمِ المتهادية على أكتاف المنازل
أبحثُ عن سُرَّةٍ تلمُّ ما يتسرَّبُ من روحي
أبحثُ عن عينين تائهتين تغادران المقهى برفقتي للتوّ
وعن أنامِلَ أرضعُها، وأنسى الأحلامَ العظيمة:
المرأةُ الدّمشقيَّةُ في هذه الجحيم العاطفيّة الحارّة
هي حتماً مستقبَلُ الرجُل.
(4)
يا أثينا الجميلة الخضراء
هذه ليستْ نزهةُ مديحٍ للشام
خالتُكِ باكيةٌ في حفرةٍ ملساء الحوافّ
تجلس القرفصاء في القاع الزّمنيّ المسنون
وتُدخِّنُ ساهِمَةً كقطرةِ ماءٍ تجفّ.
…
يُحدِّثُها بولس الرّسول
عن إنجيلٍ هاجَرَ عارياً من أورشليم
وارتدى الرّيحَ رُؤيا
بين أصابعِ كنيسة حنانيا.
…
يُحدِّثُها الوليدُ بن عبد الملك
عن جامعٍ تتمايَلُ مآذنه
كلَّما تمايَلَ النّسيمُ الأعلى
مع زهور عبّاد الشَّمس.
…
جدَّتُكِ يا روما ثكلى
تتسكَّع بين قصيدةٍ للأخطل التّغلبيّ
ومخطوطٍ لابن عساكرَ
وتقطع مَسارِبَ عبَرَتْها
خيولُ خالد بن الوليد
كي تُحيِي الذّريعةَ الوارفة
لمجيءِ الضّوءِ مُجنَّحاً.
…
جميعُهُم مرّوا
وأنتِ ما زلتِ تجلسين القرفصاء
وتدخّنين ساهِمَةً في مَطالعِ الأزمنة
تتجاذبينَ أطرافَ الحديثِ الدّمويِّ
مع خناجرَ تتوارى خلفَ الظّهورِ
مُنتظرةً قدومَهُم صاغرينَ كالعادة
يشهدُ شارعُ النّصر بكامل ازدحامه
وقطارُ الزّبداني يُؤكِّدُ الأمرَ
وترعدُ المسافةُ الغرائبيّة
بينَ قبرَي صلاح الدين وابن عربيّ.
مازن أكثم سليمان







































Discussion about this post