“الصّمت في حرم الجمال جمال”
في الحياة، هناك لحظات تتجاوز الكلمات، حيث يتقاطع الجمال مع الصّمت في تناغم لا يُعبّر عنه إلّا بالإحساس. يُقال إن الصّمت في حرم الجمال جمال، وهذا القول يحمل في طيّاته بُعدًا عميقًا، يعكس الصّلة الوطيدة بين الرّوح وكلّ ما هو جميل حولنا. حينما نواجه الجمال، سواء كان في وجه إنسان أو في منظر طبيعي أو في عمل فنّي، نتوقّف للحظة، نصمت، لأنّ الكلمات تتلاشى أمام عظمة ما نراه أو نلمسه أو نشعر به. هناك لحظات نكتشف فيها أنّ الصّمت هو اللغة الأصدق، حيث يتحدّث الجمال إلى روحنا مباشرة دون وساطة، دون أيّ حاجز.
إن الجمال لا يحتاج إلى التّصريح به، فهو يتحدّث بلغته الخاصّة، لغة الإحساس والسّكينة. ربّما لا يستطيع الإنسان أن يعبّر بالكلمات عن دهشته من جمال منظرٍ طبيعي، أو عن شعوره أمام عيون شخص يحبّه، ولكنَ هذا الصّمت نفسه يحمل أعمق المعاني. هل تعتقد أنّ الجمال يحتاج للكلمات ليُثبت وجوده؟ الجواب هو لا. الجمال يظهر في أبهى صورته حينما يقف العالم كلّه صامتًا في حضرته.
الصّمت أمام الجمال ليس هروبًا أو تجنّبًا، بل هو حالة من التّقدير والاحترام. في تلك اللحظات، نكون في حالة تناغم مع الكون من حولنا. نغمض أعيننا لثوانٍ معدودة، نفتح قلوبنا، ونشعر أنّنا جزء من هذا الجمال العظيم. إنّها لحظة اتّصالٍ عميق مع الذّات والعالم، حيث تتلاشى كلّ الضّوضاء الدّاخليّة والخارجيّة، ويبقى فقط الجمال بصفائه ونقائه.
الإنسان في كثير من الأحيان، حين يواجه الجمال، يشعر بالعجز عن التّعبير أو الاستجابة، وكأنّ الكلمات الّتي يملكها عاجزة عن نقل الإحساس العميق الّذي يمرّ به. لذلك يأتي الصّمت، ذلك الصّمت الّذي يملأ القلب بالرّاحة والطّمأنينة، ويمنح الذّهن فرصة للتفكير والتّأمل في التّفاصيل الدّقيقة الّتي لا نلاحظها في خضمّ الحياة اليوميّة.
عندما نواجه الطّبيعة في أروع صورها، كأمواج البحر الّتي تتكسّر على الصّخور أو غروب الشّمس الّذي يلوّن السّماء بألوان لا مثيل لها، نجد أنفسنا نقف عاجزين عن الحديث. إنّ المشهد يعبّر عن ذاته، وكلّ كلمة تقال بعد ذلك ستبدو غير كافية. الصّمت هنا ليس فراغًا، بل امتلاءً، امتلاءً بالإعجاب والتّقدير.
وهكذا، تتشكّل علاقة خاصّة بين الإنسان والجمال في صمت. أحيانًا، يظلّ الجمال حاضرًا في الذّاكرة أكثر من الكلمات الّتي تقال عنه. وقد يتذكّر الإنسان المشهد أو اللّحظة الّتي كانت مليئة بالجمال أكثر من الكلمات الّتي تمّ تبادلها في تلك اللحظة. كم من مرّة شعرنا بالسّكينة والرّاحة في قلبنا عندما اكتشفنا جمالًا لا يمكن وصفه؟
في الفنّ أيضًا، نجد أنّ كثيرًا من الأعمال الفنيّة الجميلة تخلق فينا حالة من الصّمت والذّهول. نتأمّل اللوحات، ونستمع إلى الموسيقى، أو نشاهد الأفلام، وعقلنا يكتفي بالإصغاء للمشاعر الّتي تثيرها هذه الأعمال دون الحاجة للكلام. الجمال الفنّي، في أغلب الأحيان، يترك فينا أثرًا أكبر من أيّ حديث يمكن أن يقال عنه. يكفي أن نشعر أنّنا قد لمسنا جزءًا من روح الفنان الّذي أنشأ هذا العمل، وأنّنا نشهد لحظة من الجمال الخالص الّذي يتجاوز حدود الزّمان والمكان.
في النّهاية، نجد أنّ الصّمت في حرم الجمال ليس غيابًا عن الحياة، بل هو حضورٌ قويّ يعبّر عن أعمق المعاني. هو لحظة تأمّل تعيد للإنسان قدرته على رؤية الجمال في كلّ شيء من حوله، وتحفيزه ليعيش الحياة بكلّ ما فيها من نعمة وعطاء. فالصّمت، إذن، هو جسر عبور إلى عالم الجمال الحقيقي الّذي لا يمكن رؤيته إلّا بالقلب.
محمد عبدالعزيز سيد
Discussion about this post