قراءة انطباعية في نص تورية لغريب: موت بارد وحياة مفتعلة
بقلم جمال ݣروݣار – المغرب
•••••
في نص تورية لغريب، لا نجد أنفسنا أمام مجرد تأمل عابر في واقع الموت، بل نحن أمام مرآة تُرينا هشاشتنا كبشر اعتادوا مشهد الدماء دون أن يرفّ لهم جفن. تبدأ الكاتبة بجملة موجعة: “لا أثر للدّم على وجه المشاهدين، ومع ذلك نتضاءل أمام الشاشات…” وكأنها تقول إنّ الخطر لا يكمن في الدم، بل في عدم وجود أثر له في أرواحنا. هذا التناقض هو ما يحرّك النص من البداية، ويجعله ينسج تأملًا حادًا في واقع انساني يتآكل بهدوء.
تنتقل الكاتبة من المشهد الخارجي إلى الذاتي: إلى الركن الدافئ، ذلك الملاذ الذي ننسحب إليه تحت غطاء “نصفه حياة”، حيث يبدو أن النصف الآخر، كما تقول، “ليس لديه أدنى فكرة عن حياة مفتعلة”، في إشارة بليغة إلى التمزق الداخلي الذي يعيشه الإنسان ما بين شعور كاذب بالأمان، وإحساس دفين بأن كل شيء من حوله مؤقت، زائف، مفتعل.
الأسئلة في منتصف النص ليست استفهامية بقدر ما هي جروح فكرية مفتوحة: ماذا لو صحونا دون ذاكرة؟ ماذا عن الحزن العالق؟ وكأن الذاكرة والحزن عنصران متلازمان، لا يمكننا الانفكاك عنهما دون أن نفقد إنسانيتنا في المقابل. وهنا، تنبع قوة النص من قدرته على إظهار هشاشة الإنسان المعاصر الذي صار يتعايش مع الألم لا لأنه أقوى منه، بل لأنه خَدّره.
عبارة “بِطلق كاتم للصوت، تنتفخ أوداج الفرح” تختصر ببراعة كيف صار حتى الفرح مشبوهًا، منفوخًا بقوة القمع، متعثرًا في الظهور. الابتسامة تتعسر، وضمائرنا تُخرس بنقرة، والليالي الدامية تمر كما تمر إعلانات الأخبار: بلا أثر حقيقي. كل هذه التفاصيل تفضح عجزنا وتواطؤنا. تورية لا تكتب نصًا للنحيب، بل للصفع؛ تصفع وعينا النائم بلغة شفافة كالماء، جارحة كالسيف.
ثم يعود النص إلى حيث بدأ، إلى الركن الدافئ، لكن العودة هنا ليست عودة استراحة، بل عودة انكسار. لقد اعتدنا شكل الموت، كما تقول، وصرنا نمارس طقوسه بتقنيات باردة: شجب، أسف، تعاطف إلكتروني، ثم ننسحب مجددًا إلى ظل نصف حياة… هكذا يختم النص بانحناءة مأساوية، إذ يتحول الغطاء الذي يدفئنا إلى استعارة عن وهم الراحة، وعن استسلام مدفوع بثقل العالم.
في هذا النص، لا تطرح تورية لغريب إجابات، بل تفتح نوافذ على أسئلة موجعة: عن ذاكرتنا، عن صمتنا، عن هروبنا الداخلي، عن الموت الذي لم يعد موتًا، بل روتينًا يُستهلك صباحًا مع القهوة.
تحية تقدير وإجلال للكاتبة تورية لغريب، التي تنجح دائمًا في غرس الأفكار العميقة بأسلوبها الفريد.
———————————–
النص:
📌لا أثر للدّم على وجه المشاهدين، ومع ذلك نتضاءل أمام الشاشات…
كل شيء ذاهب للفناء…هكذا نقول حين ننزوي في الركن الدافىء، تحت لحاف، نصفه حياة…
أما النصف الآخر، فليس لديه أدنى فكرة عن حياة مفتعَلة…
ماذا لو صحونا دون ذاكرة مزعجة ؟
ماذا عن نبرة الحزن العالقة في الحناجر ؟
بِطلق كاتم للصوت، تنتفخ أوداج الفرح، يتعسّر الابتسام …
يشير إلى أعداد الشهداء، نحتسي قهوة الصباح، وبِزرّ نغسل دماء الطرقات، بنقرة نخرس ضمائرنا بعبارات العزاء، دون أن نخوض في أحداث الليالي الماضية…
كم مرّ على هذا الموت المتناسِل ؟ أبِضعة شهور وأكثر ؟ فعلا ؟؟
سنمضي إلى حيث لا ندري… لكننا تعلمنا الكثير منذ اعتدنا شكل الموت، كأن نتقن الشجب وندمن الأسف…
ثم نعود لننزوي في الركن الدافىء
تحت غطاء نِصفُه حياة…
Touria Laghrib







































Discussion about this post