المشط من عاجِ كليوباترا إلى أدراج اليوم : أثر ناعم عبر الحضارات
من بينِ الأدواتِ اليوميَّةِ الَّتي حفرت لها حضورًا في الذَّاكرةِ الإنسانيَّةِ منذُ فجرِ التَّاريخ، يبرزُ المِشْطُ بوصفِه قطعةً صغيرةً تتقاطعُ فيها الوظيفةُ معَ الجمال، ويعكسُ، بأسنانِه الدَّقيقة، مراحلَ تطوّرِ الذَّوقِ الإنسانيِّ ومفاهيمَ الزِّينةِ والهويَّةِ الاجتماعيَّة، لا سيَّما عندَ النِّساء.
لم يكنِ المِشْطُ مجرَّدَ أداةٍ لتسريحِ الشَّعر، بل كان شاهدًا على حضاراتٍ بكاملِها. فقد صنعت وصيفاتُ كليوباترا مِشْطَها من عظامِ سمكِ النِّيل، يُحفِّز خلايا الذَّاكرةِ الملكيَّةِ كلَّ صباح. أمّا عشتار البابليَّة، فكانت تُسَرَّحُ بجدائلِ خشبِ الصَّندلِ القادمِ من وراءِ البحار. وفي مصرَ القديمة، كانت الملكةُ حَتشَبسوت تلجأُ إلى مِشْطٍ من عاجٍ ناعمٍ يليقُ بزيوتِها الملكيَّةِ المستوردةِ من الهند، فتمنحُ تسريحتَها صبغةً سلطانيَّةً تُبهر شريكَها، تَحْتَمسَ الثَّاني.
رغم هذا الحضورِ العريق، لم يحظَ المِشْطُ في الأدبِ العربيِّ والعالميِّ بمكانةٍ تعكسُ تاريخَه الرَّمزيَّ والجماليَّ. ظلَّ هامشًا في السَّرد، ولم يتحوَّل إلى رمزٍ أو بؤرةِ صراعٍ دراميٍّ كما فعلت أدواتٌ أخرى كالسَّيفِ أو الخلخالِ أو القِلادة. لكنَّه، في الفنِّ البصريِّ، كان أكثرَ حضورًا؛ نُحِت، وُزُخْرِف، ووُثِّق على جدرانِ المعابد، وفي مقابضِه نُقشت رسائلُ حضاريَّةٌ تتراوحُ بين الطُّقوسِ الدِّينيَّةِ والأساطيرِ اليوميَّة.
لقد تأخَّرتِ الكتابةُ كثيرًا في الالتفاتِ إلى هذه الأدواتِ النَّاعمةِ الَّتي صاحبتِ الإنسانَ منذ عصورِ ما قبلَ التَّدوين. فمنذ العصرِ الحجريِّ، صنع الإنسانُ أمشاطَه من العظام، كما في الاكتشافِ الأثريِّ في سوريَّا الَّذي يعودُ إلى نحو 8000 قبل الميلاد. وامتدَّ استخدامُ المِشْطِ إلى الحضاراتِ الصِّينيَّةِ والمصريَّة، حيث أصبح رمزًا للرُّتبةِ الاجتماعيَّة، وأداةَ تجميلٍ وتنظيفٍ في آنٍ معًا.
وفي أوروبا، تطوَّر المِشْطُ إلى شكلٍ فنّيٍّ صرف. ففي القرنِ الرَّابعِ عشر، نَقَش الإيطاليُّون على مقابضِه رسوماتٍ تعكسُ استخدامَ السِّحر، بينما احتفى الفرنسيُّون بالمشاهدِ الإنجيليَّةِ على العاجِ المصقول. وقد اكتشف الباحثان كوستاس مومكوغلو وجوزيف زياس أمشاطًا من القرنِ الأوَّل الميلادي، احتفظت ببقايا القَمْلِ وبَيْضِه، ممّا يُسلِّط الضَّوءَ على بُعدٍ نَظافَوِيٍّ للمِشْط، ظلَّ ملازمًا لوظيفتِه الجماليَّة.
تشيرُ الدِّراساتُ الشَّكليَّةُ إلى أنَّ تصميمَ المِشْطِ يُحاكي كفَّ اليد، بأصابعِه الممتدَّةِ لتنظيمِ الشَّعرِ وتدليكِه، بما يفتحُ بابًا لفهمٍ فنّيٍّ وأثريٍّ أوسع، من خلالِ الزَّخارفِ الَّتي تُزيِّن مقابضَه، والَّتي غالبًا ما ترتبطُ بمرحلةٍ حضاريَّةٍ معيَّنة.
ومع أنَّ الأدبَ لم يلتفت كثيرًا إلى المِشْط، إلّا أنَّ دلالتَه الرَّمزيَّةَ كانت حاضرةً في تأويلاتِ الأحلام. فقد رآه ابنُ سيرين علامةً على الفرحِ العابر، وعلى العدلِ والحمايةِ من الحسد، كما ارتبط برموزٍ معرفيَّةٍ كالطَّبيبِ والفقيهِ والمربّي.
اليوم، يُعيد المِشْطُ طرحَ نفسِه كأثرٍ ثقافيٍّ مهمٍّ، لا بوصفِه أداةً عابرة، بل ككائنٍ رمزيٍّ يعكسُ الوعيَ الجماليَّ والاجتماعيَّ للحضارات، وكوثيقةٍ ناعمةٍ، تمرُّ فوق رؤوسِ النِّساء، لتُسجِّل من خلالها فصولًا غير مكتوبةٍ من التَّاريخ.
حجاج أول عويشة
عن الأنترنت بتصرف
Discussion about this post