#قصة_قصيرة
صيام على حافة الاغتراب (10)
الكتابة كفعل ولادة
بقي يوسف لحظات محدّقا في الصفحة البيضاء أمامه، كأنها مرآة تعكس أعماقه أكثر مما تعكس الكلمات. كان القلم بين أصابعه، لكنه لم يتحرك بعد. لأول مرة، لم يكن خائفا من الفراغ، بل كان يشعر بأنه امتلك زمام أمره أخيرا.
في الخارج، كانت بروكسل تمطر بغزارة، والمدينة، رغم ضجيجها المعتاد، بدت له صامتة، كأنها تنتظر أن يُدون شيئا يخصها، شيئا يُعيده إليها بعد مدة من التيه.
تنفس بعمق، وبدأ يكتب:
“في مدينة لا تنام، كنتُ أسير بلا وجهة، أبحث عن شيءٍ لم أكن أعرفه، حتى التقيت برجل يعزف على وتر صامت، وآخر يحمل كتابا بلا عنوان. لم يكونا مجرد شخصين، بل كانا إشارتين، دليلين على أن الطريق لم يكن مسدودا كما كنت أظن. الاغتراب لم يكن في المدينة، بل في داخلي. والآن، حان الوقت لأكتب حكايتي، كما يجب أن تُكتب.”
توقف لحظة، نظر إلى السطور الأولى، شعر أنها ليست مجرد كلمات، بل بداية جديدة. للحظة، خُيّل إليه أن العازف يجلس غير بعيد عنه، يبتسم كأنما يقول له: “ألم أخبرك؟”
رفع يوسف رأسه، نظر عبر النافذة، ثم ابتسم. لم يكن يعرف إلى أين سيقوده هذا الطريق الجديد، لكنه كان واثقا من شيء واحد: لن يكون كما كان من قبل.
نهض، أغلق الكتاب بحذر، ووضعه في جيب معطفه. دفع ثمن القهوة، ثم خرج إلى الشارع المبتلّ. المطر كان لا يزال ينهمر، لكنه لم يعد يشعر بالبرد كما كان. لأول مرة، شعر أن بروكسل مدينة يمكنه أن ينتمي إليها، لا كغريب، بل ككاتب يحوّل اغترابه إلى حكاية.
ومضى في الشارع، تاركا أثر خطواته على الأرصفة المبللة، فيما كانت المدينة تواصل همسها في أذنيه، تنتظر منه أن يكتب ما لم يُكتب بعد.
المباني الرمادية، الأزقة الضيقة، المارة الذين يسرعون في خطواتهم كأنهم يهربون من شيء ما، كل ذلك بدا له مألوفا على نحو جديد. لم تعد بروكسل المدينة الغريبة، بل أصبحت مسرحا لحكايته التي بدأت تتشكل.
عند ناصية شارع هادئ، توقف. كان ثمة دار الشباب لم ينتبه إليها من قبل، بإنارة قوية وطاولات خشبية جميلة تطل على زجاج مبلل. شعر بحاجة إلى اكتشافها، إلى الاستمرار في الكتابة قبل أن يتبخر هذا الشعور العميق الذي يسكنه.
دفع باب دار الثقافة، فاستقبله صوت جاك بريل ينزلق بهدوء بين الجدران. اختار طاولة قرب النافذة، أخرج الكتاب، فتح الصفحة الأولى، وأكمل:
“في الاغتراب، نعتقد أن المدن هي التي تبتلعنا، لكن الحقيقة أننا نحن من نفقد أنفسنا بين جدرانها. كلما بحثنا في الخارج، ضللنا الطريق أكثر، لأن الإجابة لم تكن هناك يوما، بل كانت دائما في الداخل.”
رفع عينيه عن الورقة، نظر إلى انعكاسه في الزجاج، فلم يرَ الغريب الذي كانه من قبل. رأى شخصا بدأ يتصالح مع صوته، مع حكايته.
في تلك اللحظة، دخل رجل إلى عين المكان. لم يكن وجهه غريبا تماما، كان فيه شيء من العازف، وشيء من الرجل الذي أعطاه الكتاب… هو شخص آخر. جلس على الطاولة المقابلة، نظر إلى يوسف مباشرة، ثم قال بصوت هادئ:
— “أنت تكتب أخيرا.”
لم يندهش يوسف، لم يسأل من يكون. اكتفى بأن يبتسم، ثم أمسك القلم، وأجاب دون أن يرفع عينيه عن الصفحة:
— “وأنت تقرأ أخيرا.”
عاد إلى الكتابة، بينما كان الرجل المقابل يراقبه بصمت. لم يكن مهما من هو، بل المهم أن يوسف لم يعد وحيدا في حكايته.
خارج دار الثقافة، كانت بروكسل تمطر، لكن يوسف لم يكن يشعر بالبرد. كان في قلبه دفء جديد، دفء الكلمات التي وجدت طريقها أخيرا إلى الورق.
بينما كان يوسف يكتب، كان يلاحظ كيف أن المدينة أمامه بدأت تتغير. لم تكن المارة فقط من يمرون في شوارع بروكسل، بل كانت الأشباح والذكريات تحيط به أيضا. لم يعد كل شيء مجرد مشهد يمر مرور الكرام؛ بل كانت المدينة تخبئ أسرارها في كل زاوية، في كل رصيف، في كل خطوة.
التقط قلما آخر، وأكمل ما بدأه في الكتاب:
“المدينة، كما تعلمون، ليست هي ما تراه العين. هي مجموعة من الأماكن التي تلتقي فيها القصص، حكايات لا ترويها الأبنية ولا الأزقة، بل الأشخاص الذين مروا من هنا. نحن نتخيل المدن بمثابة أماكن ثابتة، لكن الحقيقة أن المدينة تتغير بتغيرنا. نحن الذي نعيد تشكيلها في كل لحظة.”
شعر يوسف أن الكلمات التي يكتبها لم تكن مجرد أفكار، بل كانت انعكاسا لما مرّ به، لما أحسه، وما بدأ في اكتشافه عن نفسه وعن المدينة من حوله. كانت المقهى مكانا للانعكاس، ولعالمه الداخلي الذي بدأ يتسرب إلى الورق.
لمح من طرف عينه الرجل الذي دخل دار الثقافة قبل قليل. كان لا يزال جالسا في مكانه، يراقب الخارج كما لو كان ينتظر شيئا. نظر إليه يوسف، ثم قرر أن يذهب إليه.
اقترب منه بحذر، ثم قال:
— “هل تقرأ في صمت دائما؟”
ابتسم الرجل، ورفع نظره عن كتابه، قائلا:
— “ليس دائما. لكن الصمت هو اللغة التي تتحدث بها المدينة.”
كانت هذه الكلمات، رغم بساطتها، تحمل عمقا أكبر مما توقع يوسف. نظر إلى الرجل، ثم إلى الورقة أمامه، وأدرك أن هذا الحوار، رغم أنه لم يكن أكثر من لقاء عابر، كان خطوة أخرى نحو اكتشاف ذاته.
جلس بجانبه، وأغلق الكتاب. ثم قال:
— “هل تعتقد أن الكتابة هي الطريق الوحيد لفهم المدينة؟”
أجاب الرجل بهدوء:
— “الكتابة ليست الطريق الوحيد، لكنها واحدة من الطرق. الكتابة هي فعل محاولة فهم… محاولة ترتيب الفوضى التي تشعر بها في قلبك. والمدينة، مثل الكتاب، مليئة بالقصص التي لم تكتب بعد.”
تلك الجملة كانت كالصاعقة بالنسبة ليوسف. كان قد شعر بهذا الشعور في قرارة نفسه، لكن لم يكن قد أكتشف بعد كيف يترجمه إلى كلمات.
— “لكن ماذا لو لم نستطع كتابة كل شيء؟”
أجاب الرجل ببطء، وكأن كلمات جوابه كانت تخرج من أعماق عميقة:
— “ذلك هو جمال الحياة. هناك دائما ما لا يمكننا كتابته، وما لا يمكننا فهمه… لكننا نظل نكتب، حتى عندما نعلم أن هناك دائما شيء سيظل خارج متناول يدنا.”
صمت يوسف. كان الرجل على حق. الكتابة، كما الحياة، ليست حول فهم كل شيء، بل حول محاولة استيعاب جزء من العالم الذي نعيش فيه.
نظر إلى الكتاب مرة أخرى، ثم غلقه. لم يعد يحتاج إلى الكلمات كما كان في البداية. لقد بدأ في فهم المدينة بطريقة جديدة.
في تلك اللحظة، شعر أن الكتابة كانت أكثر من مجرد وسيلة للتعبير عن نفسه. كانت وسيلة لاستكشاف المجهول، لاستكشاف كل زاوية من زوايا الروح والمدينة التي يعيش فيها.
المدينة تحكي له، وهو يكتبها بطريقته الخاصة.
Discussion about this post