#قصة_قصيرة
صيام على حافة الاغتراب (9)
الوهم الذي يسكن الحقيقة
وقف يوسف في منتصف المقهى، والكتاب الفارغ بين يديه. كانت أصابعه ترتجف، ليس من البرد، بل من شيء أعمق، شيء يزحف داخله كظل لم ينتبه له إلا الآن.
“هل أنا من كتب القصة طوال الوقت؟”
لم يستطع البقاء هناك. التقط الكتاب، وخرج إلى الشارع. المطر كان قد خف قليلا، لكن الهواء ظل محملا برائحة المدينة، تلك الرائحة التي لم يعد يعرف إن كان يحبها أم يختنق بها.
مضى يوسف يسير بلا وجهة، عيناه معلقتان بالكتاب، كأنه ينتظر أن تعود الحروف فجأة، أن يظهر شيء يخبره أنه لم يفقد عقله بعد. لكنه كان يعلم في أعماقه، أن ما حدث لم يكن مجرد وهم.
عند وصوله إلى مبيته، جلس تحت القنطرة، أخرج الورقة المطوية التي أعطاه إياها الرجل الغامض في تلك الليلة. فتحها ببطء، وكأنه يخشى ما سيراه.
كان هناك عنوان آخر غير الأول، مكتوب بخطٍ دقيق:
“المكتبة القديمة – شارع ميرودي”
حدّق في الكلمات طويلا مندهشا. لم يكن المكان بعيدا عن وسط بروكسل، لكنه لم يسمع به من قبل. تُرى، ما الذي ينتظره هناك؟ ولماذا شعر أن كل هذا لم يكن سوى خيطٍ يقوده إلى شيء لم يكن مستعدا لمواجهته بعد؟ قرر أن يذهب.
حين وصل إلى شارع ميرودي، وجد نفسه أمام مبنى قديم، بابه الخشبي عتيق، ولوحته شبه باهتة بفعل الزمن. دفع الباب ببطء، فانفتح بصوت خشخشة خفيفة.
في الداخل، امتدت رفوف الكتب حتى السقف، والرائحة العتيقة للورق ملأت أنفه. كانت هناك إضاءة خافتة، وصوت طقطقة نار قادمة من مدفأة صغيرة في الزاوية.
تقدم بحذر. لم يكن هناك أحد في البداية، لكنه لمح حركة خلف أحد الرفوف.
ظهر رجل عجوز، عيناه حادتان كمن قرأ أكثر مما ينبغي. نظر إليه وقال بصوت هادئ:
— “أخيرا وصلت.”
شعر يوسف بارتباك. كيف يعرفه؟ ولماذا كان صوته مألوفا؟
— “أنت تعرفني؟”
ابتسم الرجل بهدوء، وسحب من الرف كتابا مغبرا، ووضعه أمام يوسف.
— “ليس المهم أن أعرفك، بل المهم أن تعرف أنت من تكون.”
نظر يوسف إلى الغلاف، وقلبه يخفق بسرعة.
على ظهر الكتاب، كان هناك عنوان محفور بخط باهت:
“صيام على حافة الاغتراب – تأليف مجهول.”
تراجع خطوة، كأن العالم كله اختلّ من حوله. شعر بدوار غريب، وكأن الواقع قد انزلق من تحت قدميه.
رفع عينيه إلى الرجل، لكن العجوز لم يعد هناك.
كان وحده في المكتبة، والكتاب في يده، لا يحمل اسما، يحمل قصته، يحمل كل شيء.
لكن السؤال الحقيقي ظلّ معلقا في الهواء:
“إن كنتُ أنا الكاتب… فمن إذن كان يكتبني؟”
وقف يوسف وسط المكتبة، والكتاب بين يديه، يشعر أن الأرض تميد به. قلب الصفحات ببطء، يبحث عن شيء، أي شيء يفسر هذا اللغز الذي يبتلعه دون رحمة.
كل صفحة كانت تعكس جزءا من حياته، كأن أحدا قد راقب كل خطوة خطاها، كل كلمة نطق بها، كل لحظة اغتراب عاشها. حتى حديثه مع العازف الغريب، والمرآة التي واجه فيها ظله، كان مكتوبا هنا، بتفاصيل لم يذكرها لأحد.
“كيف يمكن لهذا أن يكون؟”
شعر بأن المكتبة تضيق عليه، فخرج إلى الشارع. الهواء البارد لفح وجهه، لكنه لم يوقظه من دوامة الأسئلة التي تدور في رأسه. سار بلا هدف، حتى وجد نفسه عند القنطرة التي بات فيها ليالٍ طويلة.
جلس، وضع الكتاب بجانبه، وأغمض عينيه.
— “كل شيء مكتوب…”
فتح عينيه فجأة. من قال ذلك؟ التفت، فوجد العازف الغريب يقف غير بعيد، يعزف على وتر مكسور كما لو كان يصدر صوتا لا يُسمع إلا لمن تاه في نفسه.
— “أتعني أنني مجرد سطر في كتاب؟”
ضحك الرجل، ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن سخرية.
— “بل أنت الكاتب والقارئ معا. لكن المشكلة أنك لم تفهم بعد أن الحكاية ليست على الورق، بل في داخلك.”
أشار يوسف إلى الكتاب بجانبه.
— “لكن هذا… هذا مكتوب قبل أن أقرأه. كيف؟”
اقترب العازف، التقط الكتاب، وقلب صفحاته بسرعة، ثم أغلقه وقال:
— “المشكلة أنك لم تتساءل يوما: ماذا لو كنت أنت من يكتب هذا الآن؟”
— “ماذا تعني؟”
— “كل قرار، كل خطوة، كل لحظة وعي… أنت من يختارها. لكنك قضيت حياتك تظن أنك مجرد شخصية ثانوية في قصة شخص آخر.”
سقط الصمت بينهما، ولم يبقَ سوى صوت المدينة الخافت في الخلفية.
ثم تابع الرجل بصوت هادئ:
— “السؤال الحقيقي ليس من كتبك، بل متى ستبدأ بكتابة نفسك؟”
تركه العازف ورحل، واختفى بين ظلال الأزقة.
ظل يوسف جالسا هناك، يحمل الكتاب كما لو كان يحمل نفسه بين يديه. شعر أنه وصل إلى مفترق لا عودة منه.
يمكنه أن يمزق الكتاب، أن يتجاهله، أن يعود لحياته كما كانت. أو… يمكنه أن يفتحه، لكن هذه المرة، ليكتب الصفحة التالية بنفسه.تنفس بعمق، ثم فتح الصفحة الأخيرة، ووجدها فارغة.
نظر إلى المدينة من حوله، إلى السماء الرمادية فوقه، ثم سحب قلما من جيبه، وكتب:
“لم يعد للاغتراب مكان في داخلي.”ثم نهض، وسار باتجاه الضوء.
سار يوسف عبر شوارع بروكسل، يحمل الكتاب كأنه يحمل قدره. لم يعد كما كان، لم يعد مجرد ظل يتبع الأقدار حيث تسوقه، بل صار يشعر أنه يقبض على خيوط شيء ما، شيء لم يكن يراه من قبل.
عند أول مقهى صادفه، جلس إلى طاولة خشبية، طلب قهوة سوداء، وفتح الصفحة البيضاء التي تركها العازف بين يديه.
“لم يعد للاغتراب مكان في داخلي.”
تأمل الجملة، شعر أن الكلمات كانت أكثر من مجرد حبر، كانت وعدا، التزاما، عبورا من مرحلة إلى أخرى. لكن ماذا بعد؟
حين رفع رأسه، لمح رجلا يراقبه من بعيد، كان مختلفا عن كل من التقاهم هنا. رجل بملامح حادة، عينان عميقتان، وابتسامة خفيفة، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة منذ زمن.
اقترب الرجل، جلس دون أن يطلب الإذن، ثم وضع كتابا أمام يوسف. كان غلافه أسود، بلا عنوان.
— “لم أكن واثقا متى ستصل إلى هذه النقطة، لكنني كنت أعلم أنك ستصل.”
تردد يوسف للحظة قبل أن يسأل:
— “من أنت؟”
ابتسم الرجل، ومرر أصابعه على الغلاف الأسود.
— “لستُ مهما. المهم هو أنك هنا. المهم أنك أمسكت بالقلم أخيرا.”
شعر يوسف أن شيئا بداخله يتغير، كأن طبقة أخرى من الحجب تُرفع عن عينيه.
— “ما هذا الكتاب؟”
— “إنه صفحتك القادمة، لكنك أنت من سيكتبها.”
تجمد يوسف، تذكر العازف، تذكر نبوءته، تذكر كل اللحظات التي شعر فيها بأنه مجرد عابر في مدينة لا تعترف به. والآن، يُقال له إنه لم يكن عابرا، بل كان دائما الكاتب، لكنه نسي ذلك.
مدّ يده، فتح الغلاف الأسود، فوجد الصفحة الأولى فارغة، باستثناء جملة واحدة:
“الحكاية تبدأ عندما تقرر أن تكتبها.”
رفع رأسه، لكن الرجل كان قد اختفى.
نظر إلى الكتاب أمامه، ثم أمسك بالقلم، وأدرك أنه هذه المرة لن يهرب.
رفع القلم، واستعد ليكتب…
Discussion about this post