فكرة النّصّ الشعري ” ليلة بكى فيها القلم” للشاعرة بشرى طالبي
بقلم الأديب الناقد : حميد بركي. من المغرب
ليلة بكى فيها القلم
بالأمس،
قبل شروق الشّمس،
سُمع نباح في الحي،
مع بعض الهمس…
جاء الخبر يهرول،
وهو يصيح:
قُبض على القلم،
في حال تلبّس.
تَبِعَته حروف العِلٍّة،
تلهث خلف كان وإِنِّ،
وقف الفعل الأجوف،
بعيدا يتجسّس،
ينتظر وصول المصدر.
صاح القلم إنّني بريء..
تركوه في السًجن وحيدا.
لما انتصف الليل،
نصبوا محكمة باسم الحرّيّة،
قال القاضي: أنت متّهم،
بالجرأة وإشعال الفتنة،
كتبت مقالا يصف جسد الحرّيّة،
هذا ذنب يوجب قطع الرّقبة…
صاح القلم،
لكنّني قَطُّ، لم ألمسها،
بالكاد تخيّلت معناها،
وحلمت يوما، أنّني أمسك يدها.
طلب القاضي حضور الحرّيّة،
لسماع شهادتها وإثبات التّهمة،
نادى السّاعي على الحرية..
نادى… ونادى… ونادى…
لكنّ الحرية لم تحضر.!!
نظر القاضي للقلم،
وهو يقول:
أين حبيبة قلبك؟ أين الحرّيّة؟
ستقضي باقي عمرك،
خلف القضبان تتحسّر.
طأطأ القلم رأسه وبكى،
لم يتوقّع خذلان الحرية.
خلف الباب،
لمح طيفا يتلصّص.
رفع رأسه،
شمً رائحة عطر تتسلّل،
لكنّ صاحبة العطر،
أجبن من أن تظهر،
نطق القاضي بالحكم:
ستعدم فجرا،
في ميدان الحرّية،
سيحاكم معّك،
كلّ من قرأ مقال الحرّيّة.
ابتسم القلم وهو يردّد:
روحي فداء للحرّيّة،
سأموت اليوم،
وغدا يخلفني،
ألف قلم وقضيّة ….
طالبي بشرى
القصيدة تفيض بالمجاز والكناية والتّعريض، وتغزل رمزيّة عميقة بين القلم والحرّيّة، بين الكتابة والسّجن، بين الفكرة والمقصلة. منذ مطلعها، تنسج الكلمات صورة دراميّة محكمة، حيث “جاء الخبر يهرول”، في مشهد مجازي يمنح الخبر هيئة جسديّة، فيوحي بوقعه العاجل وثقله المهول. هذا مجاز عقلي يلبس المعاني أجسادًا، وكأنّها كيانات حيّة تتحرّك وتتصرّف، ما يعزّز من وقع الحدث في ذهن القارئ.
عندما يُحاكم القلم، فهو ليس مجرّد أداة للكتابة، بل روح المفكّر وسلاح الكلمة، إذ تتجسّد فيه الاستعارة التّمثيليّة، حيث تتحوّل الكتابة إلى جريمة، والمقال إلى فتنة، والحرية إلى طيف متخاذل. في قول القاضي: “أنت متّهم بالجرأة وإشعال الفتنة”، يتجلى التّعريض، فالتّهمة ليست إلا قناعًا يخفي الحقيقة، والمقصود ليس القلم وحده، بل كلّ صوت حرّ يجرؤ على التّعبير.
يصل النّصّ إلى ذروة براعته البلاغيّة حين يستدعي القاضي الحرّيّة، لكنّها لا تحضر، في لقطة تختزل عمق المأساة. هنا، الكناية ترسم ملامح الحرّيّة الغائبة، فهي وإن لم تُذكر صراحة أنًها وهم أو مستحيلة، إلّا أنّ غيابها عن نصرة القلم يشي بذلك دون تصريح. ثمّ يظهر “طيف يتلصص”، و”عطر يتسلل”، في مشهد يلفّه الغموض، حيث تكتسي الحرية طابعًا شبحيًا، فلا هي موجودة فعلاً، ولا هي غائبة تمامًا، وهذا تلميح بليغ إلى جبنها أو ربما أسرها.
في ختام النص، حين يُحكم على القلم بالموت، فإنه يبتسم، بل يعلن ولادته في ألف قلم وقضية. هذه المفارقة المجازية تجسد الفكرة الكبرى للقصيدة: الأفكار لا تُعدم، بل تتكاثر كالنور في عتمة الاستبداد. هنا، الاستعارة الكلية تتجلى في صورة القلم الذي يموت ليحيا، وفي فكرة أن القتل لا يطفئ جذوة الفكرة، بل يؤججها.
القصيدة برمتها نسيج بلاغي متقن، تتداخل فيه الاستعارة بالكناية، والمجاز بالتعريض، ليُنتج نصًا يحاكي محاكمة الفكر الحر في عالم يسوده القمع، لكنه يترك للمتلقي شعورًا بأن الكلمة، مهما أُدميت، ستظل تنبت من رمادها والعنقاء.
الإيقاع الصوتي في القصيدة: حروف القلقلة نموذجًا..
تتميز القصيدة “ليلة بكى فيها القلم” بإيقاع موسيقي داخلي يمنحها طابعًا دراميًا مؤثرًا. ومن أبرز العناصر الصوتية التي ساهمت في بناء هذا الإيقاع، حروف القلقلة التي تضيف إلى الكلمات نبرة موسيقية قوية، إلى جانب تأثيرها في إبراز المعاني وتعزيز الدلالات التعبيرية.
حروف القلقلة في النص: القوة والتوتر الدرامي
حروف القلقلة (ق، ط، ب، ج، د) تظهر في مواضع حساسة داخل النص، مما يساهم في إبراز التوتر الدرامي، خاصة عند الحديث عن الاتهام والمحاكمة والعقوبة، ومن أمثلة ذلك:
القاف في “القلم” و”القلق” و”القدرة” و”القضية”: تمنح الكلمة وقعًا قويًا يوحي بالحزم والصراع.
الباء في “بكى” و”القلب” و”الباب” و”القضبان”: يخلق تكرارها رنةً حزينة تعكس أجواء الألم والمأساة.
الطّاء في “طأطأ” و”المحكمة” و”القطع”: يضيف إيقاعًا جافًا يوحي بالقسوة والحدة
الإيقاع ودلالاته النفسية:
إن تكرار القاف في مواضع مثل “القلم” “القلق” و”القضية” يجعل القارئ يشعر بطاقة مكبوتة، وكأن الكلمات تصرخ احتجاجًا، بينما تمنح الباء والطاء نغمات تتراوح بين الانكسار والعنف، هذه الظاهرة تؤكد أن الإيقاع الصوتي ليس مجرد عنصر جمالي، بل هو جزء لا يتجزأ من المعنى العاطفي والفكري للقصيدة.
تفاعل الحروف مع الفكرة العامة، كالحروف الصاخبة، مثل القاف والطاء، تقترن بالمقاطع التي تصف المحاكمة والاتهام، بينما الحروف الأكثر نعومة، مثل الميم والنون، تأتي في لحظات التأمل والاستسلام. هذا التناغم بين الصوت والمعنى يجعل من القصيدة نصًا متكاملًا تتجسد فيه الأحاسيس عبر الموسيقى الداخلية للكلمات، حيث يبرز الإيقاع الصوتي في “ليلة بكى فيها القلم” كعنصر أساسي في تشكيل تأثيرها العاطفي والفكري، حيث تلعب حروف القلقلة دورًا بارزًا في إبراز التوتر والمعاناة، مما يجعل النص أكثر عمقًا وتأثيرًا في المتلقي
حميد بركي
Discussion about this post