#قصة_قصيرة
صيام على حافة الاغتراب (7)
المدينة… حين تتحول إلى قفص
وقف يوسف في منتصف الطريق، مشدوها بين التيه واللايقين. كانت المدينة تحيط به، لكنها لم تعد تنتمي إليه، أو ربما لم يكن ينتمي إليها منذ البداية. شعر أن خطواته لم تعد تقوده، بل كانت جزءا من سيل جارف يسحبه إلى حيث لا يدري.
المباني المرتفعة، النوافذ المضيئة، السيارات العابرة، كلها تحولت إلى مجرد مشاهد باهتة في خلفية ذهنه المضطرب. لأول مرة أدرك أن الغربة ليست مكانا، بل شعور يتسرب إلى الداخل، يعشش في زوايا القلب والعقل حتى يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحنين والضياع.
عبر الطريق ببطء، وكأن جسده صار أثقل من روحه. وجد نفسه يسير بلا وجهة… المدينة بأكملها فقدت البوصلة. أوقفه صوت من بعيد، كان غريبا، غير مألوف لكنه مألوف في آن. التفت ليجد رجلا يجلس على الرصيف، ملابسُه مهترئة، شعره أشعث، وعيناه تحملان ذاك البريق الموحش الذي رأى مثله في المقهى.
— “اقترب… لا تخف.”
تردد يوسف، لكنه شعر بشيء يجذبه نحو الرجل. تقدم بخطوات بطيئة، وعندما اقترب، رأى أن الرجل كان يعزف على آلة وترية قديمة، ربما كمان أو عود لم يعد له صوت.
— “ما اسمك؟”
نظر يوسف إليه طويلا قبل أن يجيب بصوت خافت:
— “يوسف.”
ضحك الرجل، ضحكة قصيرة لكنها لم تحمل أي سخرية.
— “اسم نبي… ضاع بين التيه والسجن والقصر.”
أحس يوسف برجفة غريبة تسري في جسده. لم يكن الرجل عاديا، كان كأنه جزء من نبوءة لم تكتمل بعد.
— “وأنت… من تكون؟”
رفع الرجل رأسه، نظر إلى يوسف نظرة عميقة، ثم قال:
— “أنا من كنتَ ستكون… لو لم تهرب من نفسك.”
كانت الجملة كصفعة، لم يفهمها تماما، لكنها أصابت شيئا عميقا فيه. شعر كأن الهواء من حوله قد تجمد، وأن المدينة كلها توقفت عن الحركة للحظة.
جلس يوسف على الرصيف بجوار الرجل دون أن يدري لماذا. شعر أنه بحاجة إلى أن يسمع، أن يفهم.
— “هل تعرف لماذا تضيع، يوسف؟”
لم يجب. كيف له أن يجيب عن سؤال لم يستطع حتى أن يطرحه على نفسه؟
تابع الرجل، صوته هذه المرة كان أعمق، وكأنه ينبع من بئر سحيقة في داخله:
— “لأنك تبحث عن شيء… تظنه هناك، لكنه هنا.”
وأشار إلى صدر يوسف، حيث القلب يختبئ خلف عظامه.
— “الغربة ليست أن تكون بعيدا، الغربة أن لا تجد نفسك حتى وأنت في أقرب نقطة إليها.”
شعر يوسف أن كل ما كان يعرفه عن نفسه بدأ يتصدع. كان الرجل يعبث بشيء داخله، يزيل الطبقات التي أخفاها عن نفسه طوال السنوات الماضية.
— “لكنك لا تزال تملك الخيار، يوسف. إمّا أن تستمر في التيه، أو تواجه نفسك.”
نهض الرجل، التفت نحو زقاق مظلم، وسار ببطء حتى اختفى بين الظلال.
ظل يوسف جالسا هناك، ينظر إلى الفراغ، الذي بدأ يملأه داخله.
في تلك الليلة، أدرك أن الاغتراب لم يكن في المدينة، بل في نفسه.
لم يعد الليل كما كان، ولم تعد المدينة مجرد شوارع وأضواء تتوهج وتنطفئ. كل شيء صار يملك صوتا خفيا، كأن المدينة تنفست ببطء لتهمس له بما لم يكن يريد سماعه.
وقف يوسف أمام واجهة زجاجية لمتجر مغلق، نظر إلى انعكاسه المبعثر على سطحها، فلم يجد نفسه كما اعتاد. الوجه نفسه، العينان ذاتهما، لكن ثمة غربة كامنة في النظرة، شيء كظل غامض يقف وراءه، ينتظر اللحظة المناسبة ليخرج من مكمنه.
— “متى أصبحنا غرباء عن أنفسنا؟”
همس بالسؤال كما لو أنه يسأل الزجاج، أو يسأل نفسه في بعد آخر. لكنه لم يتوقع أن يأتيه الجواب من الخلف:
— “منذ أن توقفنا عن الاعتراف بخوفنا.”
استدار بسرعة. كان الرجل نفسه، ذاك العازف الغريب، لكن هذه المرة كان يقف على بعد خطوات فقط، يحدق فيه بنظرة يصعب فك شفرتها.
— “ماذا تريد مني؟”
ابتسم الرجل، لكنه لم يجب مباشرة. أشار إلى الزجاج قائلا:
— “أرأيتَ نفسك؟ أم أنك رأيت الظل فقط؟”
تجمد يوسف، أعاد النظر إلى الواجهة الزجاجية، لكنه لم يعد واثقا مما يراه. كان هناك شيء غامض، كأن انعكاسه يتغير في كل مرة يرمقه فيها.
— “أنت تبحث عن إجابات، يوسف. لكنك تخشى الأسئلة الحقيقية.”
اقترب الرجل أكثر، وضع يده على كتف يوسف، وضغط عليه قليلا، كأنه يريد أن يوقظه من غيبوبة لا يدري متى دخل فيها.
— “الغربة التي تشعر بها ليست بسبب المكان. بل لأنك لم تعد تعرف من تكون.”
شعر يوسف بحرقة في صدره، كأن الكلمات انغرست فيه كالإبر. أراد أن ينكر، أن يجد تبريرا، لكنه لم يستطع. كيف يدافع عن شيء لم يعد متأكدا من وجوده؟
— “كيف أجد نفسي إذن؟”
سأل أخيرا، وصوته كان أقرب إلى نداء غريق.
ابتسم الرجل، لكن هذه المرة كان في ابتسامته شيء من الحزن.
— “حين تتوقف عن الهروب، وتواجه الظل.”
ثم استدار، وسار بعيدا مرة أخرى، لكنه ترك شيئا خلفه هذه المرة—كلمة، فكرة، أو ربما مرآة مكسورة في داخله بدأت تعكس حقيقة لم يجرؤ على النظر إليها من قبل.
إلى أين؟
تحرك يوسف ببطء، وكأن خطوته الأولى بعد هذا اللقاء كانت أثقل من أي خطوة خطاها في حياته. لم يعد متأكدا من شيء، لكنه شعر بحاجة ملحة إلى تتبع هذا الخيط الذي انكشف أمامه.
أخذ طريقا مختلفا، ليس بالمكان فقط، بل بالوعي. هذه المرة لم يكن يسير في المدينة كعابر، بل كمن يبحث عن نفسه وسط الشوارع والأزقة.
وحين وصل إلى مبيته المعتاد، تحت القنطرة، أخرج قطعة من المرآت، نظر إلى عينيه مباشرة، وقال بصوت خافت لكنه ثابت:
— “لا مزيد من الهروب.”
Discussion about this post