هذا النشيج لا يكفي شاهدًا، يا أمي
منى محمد صالح
ــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن يلزمني سوى خطوةٍ واحدة، يا أمّي،
واحدة فقط…
كان من الممكن أن يخلع الأفقُ معطفه،
أن يتعثّر المصير قليلًا… قليلًا،
ريثما اختلس، أمنياتي المؤجّلة،
أن يُعيدَ لي المدى، ترتيبَ الطًرقاتِ الموحلة بي،
كي تنبت البذور الّتي خبأتُها في عتمتي،
دون وجل،
كرسالة حبّ ضائعة،
بين عاشقين.
لم يكن يلزمني سوى القليل،
كي أمهلَ لغتي
مغازلةَ نداء الختام،
الّذي جاء عاجلاً،
بلا موعد.
لكنّ الهواء أثقل من خطواتي، يا أمّي،
والدّروب أضيق من حلمٍ شارد.
لم أدّخر ما يكفي من الدّموع،
لأغادر مدائن الحزن الّتي لا ترحل.
الليل يبدو أوسع ممّا يجب،
والقمر يتتبّع خطواتي،
كحلمٍ يتوارى مع ظلال الليل
ربّما لن يتذوّق الهواءُ، طعمَ الصّدأ،
أو يتشبّث بأسماءٍ من غبار
وأحلام الصّاعدين إلى حتفهم.
ها أنا واقفة هنا، على قارعةِ العمر
أبحث عن مفتاح ضاع في غيابٍ طويل
كحقيبةٍ منسيّةٍ في محطّةٍ بلا قطارات
لا تحتفظ، سوى بظلال الذّاهبين إلى الله.
أتذكّرُ، يا أمّي،
كيف كانت الطّرقاتُ تحفظُ قلبي،
ويحلّق نبضه الرّاعشُ الخجول..
مثل فراشاتٍ أرجوانيّة
أتركُ ضحكتي على مقاعدِ المساءِ،
دافئة، كنغمِ أسطوانةٍ قديمةٍ،
نسيها بحّارٌ عاشق
في صدر الذّكريات.
لحظاتٌ مكسورة،
بأسئلةٍ عالقةٍ تتوالى بلا إجابة
تصنعُ جداولَ صغيرة من الحكايات البعيدة،
وتتسلّلُ خفيةً من ممرّاتِ زجاجٍ مكسور.
أركضُ، حافيةً على شوكِ السّؤال،
والليل هنا، وحيد مثلي،
يتبعني كأنّه موسيقى شاحبة…
كلّما سألته:
“ماذا لو انتظرنا قليلاً؟”
لكنّه يمضي كأفعى عجوز،
يبدّلُ جلدَه كلّما اقتربنا منه.
لم أعد أبحث عن الأبواب، يا أمّي،
فالوقت حفرة،
والعالم زلّة قدم،
يسقط كسائل أسود
بين أصابع الفراغ.
كلُّ شيءٍ يعودُ إلى نقطة واحدة في آخر السّطر،
كأنّنا نُعيدُ ترتيبَ الرّمادِ
في كفِّ الرّيح.
من يعيد لي قلبي الّذي أوصدتُ عليه الأقفال يا أمّي…
من..؟
لا أحد…
لا شيء يفصلُ ما هو أبديّ.
أعيريني يديكِ، يا أمّي
كي أعلّق حبال طفولتي على محراب طُهركِ
وأرسم أوجاعي الصّغيرة،
أعبر بها فجوةَ العمرِ المُترنِّح حولي
أن أقطعَ هذا التّيهَ الطّاعن في التّعبِ
أفتحَ نوافذَ الغيمِ على وجهي،
كي أعيد ولادتي مرّة أخرى
ثم أمضي
كما لم أفعل من قبل.
كبرتُ، قبل هذا العمر، بين آلاف القصائد
قبل أن تحفظَ الطّرقاتُ أسماءَ العائدين،
ويُغلِقَ الليلُ نوافذه،
قبل أن تُكمِلَ السّماءُ زرقتَها،
تُغنّي الشّمسُ لأطيافِنا العائدة،
ويعودَ للنهارِ نشيدُه القديم…
وعطرُ أنفاسي
لكي أفتح الطّريق الضّائع بين يدي،
وأتذكّرُ، من أين بدأت الحكاية!
أنا كبرتُ كثيرًا.. كثيرًا،
أكبر ممّا توقّعتِ، يا أمّي،
قبل أن أجدَ الطّريقَ الّذي ضاعَ مِنّا.
لم أعد كما كنتُ،
منذ أن فقدت السّماء زُرقةَ قصائدي،
وهدأت شهقة الأنهار.
لم أعُدْ أؤمنُ بالخرائط،
منذُ ضاقت الجهاتُ على خُطواتي.
يُقالُ: إنّ الأرضَ تدورُ هنا،
كما في السّماءِ،
ويشيخُ الضّوءُ في فمِ الغياب.
حدسٌ آخر يتصاعد كالوصايا؛
لا تقتفِ أثر المجد في خطى الغريب.
متى يُغلِقُ الحزنُ أبوابَهُ المواربةَ، يا أمّي؟
تعبتُ من أسفار اللغة الأولى،
وأسماءِ المدنِ المنسيّةِ على زندِ القلب
تتقلّبُ كجرحٍ مفتوحٍ في فمِ الرّحيل.
يُفرِغُ الضّبابُ الليليُّ أمواج حزني في كأسِ الصّمت،
ينزلقُ بعيدًا عن متناولِ يدي،
وكأنَّ الغرقَ ليس إلّا
طريقةً أخرى للتنفّس.
كلُّ شيءٍ هنا رماد… رماد…
يندسُّ في أحشاءِ الحرائقِ كأسرارٍ قديمة،
والخوفُ يتّكئُ على كتفٍ مائل،
كأنَّ الرّصاصَ تعمّدَ أن يُخطئَ الهدفَ هذه المرّة، يا أمّي،
فأصابَ كلَّ شيءٍ دفعةً واحدة!
أذكر ذلك اليوم،
حيث لم يكن الغياب صاخبًا كما هو الآن،
لم ينكسرِ الزّمانُ فجأة،
كان يتسرّبُ من بينِ أصابعِنا،
خفيفًا، كفُخّار،
كأنّه لم يكن،
ابتلعَ الضّوءَ كلَّه،
وما عادَ الصّباحُ كما كان.
الجُدرانُ، الّتي تآكلَ ليلُها،
ستضيء يومًا شقوقَ نحيبِكِ الطّويل…
مثل شُرفةٍ للضوءِ،
كنتِ تقولين لي يا أمّي…
ولا تسرعي نحو الزّهر،
فهو يعرف كيف يقتفي عطر ظلاكِ،
والأرض تتجلّى ببذار خطواتها
تمُدُّ جدائلَها للأيادي الغاربة
التي خبّأتْ فجرَها في أكمامِها، ومضت،
للعيونِ التي جفّت،
وأثقلَها مزادُ الانتظار
مدىً مفتوحًا على نارنج القصائد.
هذا النّشيجُ لا يكفي شاهدًا، يا أمّي…
سأتّكئُ على كتفِ الليل،
أعدُّ الثّقوبَ في صدرِ السّماءِ،
وأستعيد ملامحي
قبل أن تبتلعها أسرار المرايا.
سأتركُ للريحِ وصيّتي الأخيرة،
ترسم وجوه أحزاننا القديمة،
لكنّها… لم تعد تحفظ ذاكرة الغياب، يا أمّي،
والنّشيج لا يكفي…
تمامًا.
ربّما كانت لنا سماءٌ أخرى
أوسع من هذا التّيه
وأكثر رحابةً من حزنٍ،
يشيخُ في فمِ الصّمت.
يُعيدُ لنا، ما ضاع من سرب النّوايا.
هو كلُّ ما تبقّى…
من صدى الخرائب.
منى محمّد صالح







































Discussion about this post