اشكال الرمزية التعبيرية في قصيدة النثر الطويلة (العابرون في اروقة العدم) للشاعرة تغريد بو مرعي بقلم انور غني
الأدب رسالة انسانية، والرسالية مقومة لأدبية الكتابة، ولقد بينا في مقالاتنا السابقة وخصوصا (قانون الابداع) ان الرسالية الأدبية قد تكون فنية وقد تكون اجتماعية. هذا الفهم للرسالية الذي يوسع من فكرة الرسالة بشكل عمدي مهم جدا ويعد خطوة متقدمة نحو فهم للفن قبل كل شيء.
الرسالية الفنية هي الامتداد عميقا في تجربة الكتابة والاشتمال على الاصالة والتجديد فان الكتابة باسلوب الشعر السردي و بصيغة الكتلة النثرية الواحدة مشتمل على عناصر الاصالة والتجديد وبما لا يحتاج الى مزيد كلام، وسنتناول التقنيات التعبيرية في الشعر السردي في جانب من البحث في قصيدة نثر طويلة لشاعرة تغرية بو مرعي عنوانها (العابرون في أروقة العدم) المنشورة في مجلة تجديد اذار 2025.
وهذه القصيدة قصيدة نثر طويلة، افقية، كتبت بالسرد التعبيري، تقع في عشرة أوراق بحجم بي فايف وتشتمل على 3500 كلمة.
الرمزية التعبيرية في هذه القصيدة
النقد التعبيري بأدوات بحثه وتتبعه في جهات الابداع وفق الأسلوبية التعبيرية يتناول النص منهجيا من خلال العناصر الفنية الأساسية وهي الاصالة والشروط والعناصر ومن جهة التجديد بالفرادة والابتكار والاضافة الفنية، والرسالية الفنية تكمن هنا في التفرد والابتكار والاضافة. وهذا في قبال الرسالة الاجتماعية للفن وهي من شروط الابداع أيضا.
والتعبيرية التي جوهرها العمق الفردي الحاد والمتفرد والخاص في الفهم للأشياء والتعبير عنها تعد إضافة فنية واضحة وتجديدا ملموسا وهو من مميزات كتاب القصيدة السردية التعبيرية. والتعبيرية تتجلى في ركنين: الاول الرمزية المتفردة والثانية العاطفة المتفردة تجاه الحياة وامورها، ولا يمكن عد الكتابة محققة للتعبيرية ان لم تشتمل على هذين الشرطين أعنى (الرمزية المتفردة) و (العاطفة المتفردة). وسنجد ان قصيدة (العابرون على أروقة العدم) محققة وبمستويات عالية لهذه العناصر التعبيرية.
أولا: الرمزية المتفردة
في قصيدة (العابرون الى أروقة العدم) نجد تفرد رمزي في مقاطع كثيرة.
الرمزية النصية
ومن مظاهر الرمزية المتفرد هي (الرمزية النصية) حيث تصنع الكاتبة رمزية نصية لمعان معروفة ليس لها هذا البعد كما في كلمتي (العابر) وكلمة (الصمت) حيث تقول:
(انا العابر بين السراب واليقين، أبحث عن ظلٍّ لا يخطئ موطئ القدم، كلُّ الطرقات تعبرني، وأنا لا أعبر شيئًا إلا وهم الإدراك).
هنا نجد للعابر معنى مختلفا ومفهوما مختلفا صنعه النص وانتجه فهو عابر السراب والوهم والظل.
وتقول الشاعرة:
(لماذا يتقن الصمتُ فنَّ الحضور؟ لماذا نكبر ونحن ننكمش داخل أرواحنا؟ هل نحن حصى في مجرى الزمن، أم ظلالٌ تطارد أصولها في مرايا الغياب؟)
فهنا الصمت يتوغل في الذات فهو حاضر جدا ويبدع الانكماش ويجعل من الذات حصى وظلال وغياب. انه صمت مختلف انتجه النص.
وهكذا يحضر (الرمز النصي) لكلمة (العابرون) حيث تقول الشاعرة:
(نحن العابرون بلا وجهة، نحمل قلوبنا مثل حقائب مثقلة بالذكريات، نبحث عن مكان نسميه وطنًا، لكنه يتوارى كلما اقتربنا. ليس المكان هو الضياع، بل الزمن الذي يسحبنا إلى هاوية اللاعودة. في زوايا العدم، نرسم وجوهنا بأطياف من ضوء، نترك أثرًا على جدار الأيام، لكن الريح تأتي دائمًا لتطمس كل شيء، كما لو أننا لم نكن هنا أبدً).
انهم عابرون مختلفون، وباحثون مختلفون، أماكنهم وخطواتهم مختلفة، انتجها النص وابتكرها. مما حققا رمزية نصية واضحة لهم.
الرمزية التوظيفية الارتكازية
هذا بخصوص الرمزية النصية وهناك شكل اخر من الرمزية في النص هو (الرمزية التوظيفية) الارتكازية
تقول الشاعرة:
(أيها الليلُ، هل تسمعُ صلواتنا حين نرتجفُ تحت سقفِ العزلة؟ هل تفهمُ دموعَ الذين يحدّقون في العتمة بحثًا عن نجمةٍ أخيرة؟ أم أنك، مثلنا، تائهٌ في مجرةٍ لا تعرفُ وجهتها؟)
(ربما كان علينا أن نبقى أطفالًا، أن نؤمنَ بأن الغدَ يحملُ معجزةً، وأن الكونَ يستمعُ إلى أمانينا. لكن، كيف نعودُ إلى تلك البراءة بعد أن لدغتنا خيبةُ الواقع؟ كيف ننسى أننا مجردُ عابرين، نحملُ قلوبَنا كما يحملُ المسافرُ حقيبةً لا يعرفُ أين سيضعُها؟)
(أيها الأملُ، لماذا تجيءُ متأخرًا دائمًا؟ لماذا لا تصلُ إلا حين نكونُ قد تعلّمنا كيف نعيشُ بدونك؟ هل كنتَ وهمًا اخترعناه كي لا ننهار، أم أنكَ حقيقةٌ تتخفّى بين ظلالِ الانتظار؟)
نجد الرمزية الخارجية التوظيفية والتي تكون بتوظيفات الرمزيات العرفية والخارجية ككلمات (الليل والامل والطفولة) فان الشاعرة وظفتها لأجل التعبير وبخطاب معتمد على توظيف لما هو وجداني وعرفي. وهذا من أساليب تقريب الرمز للنفس. فالاعتماد على الرمزية الارتكازية والوجدانية في التعبير هو من أسباب تقريب النص للنفس مما يعطيه عذوبة.
الرمزية التكميلية
وهنا في هذه القصيدة رمزية أخرى وهي الرمزية التكاملية بإعطاء رمزية اضافية لما له رمزية خارجية ككلمات (الراحل\ الوجود\الفراغ\الزمن) في النصوص التالية:
(يا أيها الراحلُ في دهاليزِ الحيرة، أما تعبتَ من حملِ الأسئلةِ على كتفيك؟ أما آنَ لهذا القلقِ أن يهدأ، لهذا العقلِ أن يستريح؟)
(أيها الوجود، إن كنتَ حلمًا، فلا توقظنا. وإن كنتَ كابوسًا، فلتكن رؤوفًا بأوهامنا. أما نحن، فلسنا إلا عابري سبيلٍ)
(كلّما سألتُ الصمتَ عن سرِّ حضورهِ الطاغي، صفعني الفراغُ بجوابٍ أخرس. كلّما حاولتُ احتضانَ المعنى، ألقى بي التيهُ في دوائرٍ لا تنتهي. لِمَ العدمُ لا يعترفُ بنا، رغم أننا نعيشُ فيه)
(يا زمن، كم مرةً بعنا أحلامَنا لنشتري لحظةَ يقين؟ كم مرةً صلبنا أنفسَنا على أسوارِ الخيبة، وانتظرنا فجرًا لم يأتِ)
بينما وجدنا في (الرمزية النصية) ابتكارا للمعنى كاملا وغريبا عن أصل المعنى ووجدنا في (الرمزية التوظيفية) اعتماد على المعنى المعهود والمرتكز في الاذهان، فانه في (الرمزية التكميلية) نجد الامرين معا لكن بدرجة اقل وبتوافق. فالشاعرة اعتمدت على الرمزية العرفية ووظفتها واضافة اليها معنى اخر تكميلي لا يبلغ خلق الرمز النص.
ثانيا: العاطفة المتفردة
اللغة التعبيرية دوما تحاول نقل الاحساس بالشيء والانفعال به قبل نقل معناه ومحاكاته. انها ترسم الاشياء وتصورها كما نحسّ بها وبما تعني لنا لا بما هي في الخارج. انها تقدم العالم بنظرة خاصة وبفكرة فردية وتضفي على الاشياء معان خاصة، وتحاول نقل الاحساس بالشيء أكثر من نقل معناه الى المتلقي.
التعبيرية وهي عاطفة حادة ومتفردة تنتج الخصوصية للمؤلف والنص نجدها مبثوثة في هذه القصيدة التي تتسم بتساؤلات وجودية والبحث عميقا في الوجود والعدم. ففي مقاطع في القصيدة نجد هذه العبارات الحادة:
(كلُّ الطرقات تعبرني)
(وقفتُ أستجدي يقينًا يبرر لي هذا الوجود المرهق)
ويكفينا الإشارة الى البعد التعبيري في العاطفة المتفردة في المقطع التالي النادر في تعبيريته الحادة؛
(يا زمن، أيها العجوز الذي يلتهمنا بأنيابٍ خفيّة، ألا تكفُّ عن خيانتنا وأنتَ تأخذُ منا ما لا تعيده؟
لا فجر في مدائن الصمت، ولا نبوءة في وجوه العابرين. كلّهم يقتاتون الوهمَ، يخشون الخلاصَ كما يخشون الضياع.
اللحظةُ التي نرتجف فيها من البرد، هي ذاتُها اللحظةُ التي نحترقُ فيها من العدم.
أيةُ مهزلةٍ هذه؟! أن نمضي نبحث عن معنىً في عالمٍ جعل اللاجدوى قانونًا مقدسًا.)
ان هذا الاعتراض والسؤال هو اعتراض التعبيريين وسؤال التعبييرين المحملة بعاطفة بركانية لا يمكن مقاومتها.
المعادلات الجمالية للرمزية التعبيرية
بينا في منسابات عدة ان العناصر الفنية تنقسم بشكل أساسي الى عوامل جمالية ومعادلات جمالية، والعوامل هي الظواهر الفنية المحصلة اما المعادلات فهي التقنيات الاسلوبية التي تتمظهر بها تلك العوامل. والرمزية التعبيرية عامل فني واضح ويتجلى بتقنيات اسلوبية نصية من المعادلات الجمالية التعبيرية. وهنا في هذه القصيدة نجد شكلين من المعادلات الجمالية التعبيرية؛ الأولى التعبيرية الاسنادية وهي وان كانت من اشكال المجاز والانزياح الا انها تتميز بطابع شدة اللاالفة. والثانية التعبيرية المفهومية بانزياح معنوي ومفهومي مغاير للمعروف.
أولا: التعبيرية الاسنادية
تتجلى التعبيرية التركيبية الاسنادية بالاضافات العلاقاتية التركيبية واهمها صور الانزياح الفذ والعالي. ويكون ذلك على مستوى التركيب الاسنادي بين المفردات وعلى مستوى التركيب الجملي بين اجزاء الجملة.
تقول الشاعرة:
(كنتُ أظنني أقتفي أثرَ الأجوبة، فإذا بي أطارد سراب الأسئلة. أين نحنُ من صرخة البدايات؟ أكان الكونُ يحتاجنا حقًا أم نحن من توهّم الحاجة؟
لم يعد هناك مكانٌ للدهشة، صار الكونُ أصغرَ من سؤال، وأكبر من يقين. العابرون مثلي، يطرقون أبوابَ الفراغ، يحدّقون في جدرانٍ لا تحفظ أثرًا.)
نجد (صرخة البدايات\ أبواب الفراغ \ جدران لا تحفظ اثرا). اسنادات شديدة الانزياح واللا الفة. هذا على مستوى الاسناد بين المفردات.
اما على مستوى العبارات فإننا نجد:
(كنتُ أظنني أقتفي أثرَ الأجوبة، فإذا بي أطارد سراب الأسئلة.)
(أين نحنُ من صرخة البدايات؟)
(لم يعد هناك مكانٌ للدهشة، صار الكونُ أصغرَ من سؤال، وأكبر من يقين.)
(العابرون مثلي، يطرقون أبوابَ الفراغ، يحدّقون في جدرانٍ لا تحفظ أثرًا.)
في الواقع ان هذا المستوى من التعبير بالتركيب المجازي مع وضوح المغزى والغاية والهدف هو أحد اشكال (اللغة القوية) التي هي من غايات الشعر.
وهكذا في فقرات النص الاخرى فالنص يعتمد السرد التعبيري، ومن خلال الرمزية التعبيرية، يتحقق مزج وثنائية تعبيرية بين علو الرمز وعذوبة ظاهرة وجلية. ان اهم ما تقدمه السردية التعبيرية للنص هو اضفاء عذوبة وحلاوة لدى المتلقي رغم علو الرمز، وعذوبة الرمزية بالسرد التعبيرية واضحة في هذ النص وجميع فقراته شاهدة على ذلك. ان من غايات قصيدة النثر هي (الرمزية العذبة)
اما التركيب النصي ، فمع ما تقدّم من المزاج و الجو العام العذب للسردية في النص، فإننا يمكن ان نلاحظ التقابل التعبيري بين الفقرات وانها تدور حول فكرة عميقة مركزية ، وكأن النص وهو بشكل قصيدة نثر حرة مقسم الى فقرات متناصة، كل هذه الفقرات تحاول ان توصل الى المتلقي فكرة مركزية، هذه الحركة الدورانية و التعابير المتقابلة والمترادفة في فكرتها والتي نسميها ( التناص الداخلي ) تحقق اسلوب لغة المرايا و( النص الفسيفسائي ) فإنها تظهر الفكرة الجوهرية العميقة للقصيدة بالتساؤل والاعتراض عن فكرة الوجود والعدم والبقاء والفناء بتعابير مختلفة.
ثانيا: التعبيرية المفهومية
بينما يكون الابداع في التعبيرية التركيبية الاسنادية على مستوى التركيب والعلاقات البنائية بين الوحدات الكلامية، فان التعبيرية المفهومية تنفذ عميقا في المعنى والفهم للأشياء، فتعطي فهما جديدا لها وخاصا.
نجد في هذا النص الفهم الخاص والفردي في اشياء منها:
(أيها الليل، كيف تحمل كل هذه الأحلام الميتة؟ فهنا ليل يحمل احلاما ميتة.
(الوجودُ مثلُ موجةٍ تتكسرُ على صخورِ الأسئلة) فالوجود موجة تتكسر وهذا اعتراض حاد وقوي.
(في زوايا العدم، نرسم وجوهنا بأطياف من ضوء، نترك أثرًا على جدار الأيام) فهنا عدم مليء بالأطياف والضوء والاثار.
ان هذه القصيدة فعلا تعطي روحا للعدم وتعطي وجودا له وتخلق بقاء للفناء وخلودا. بالقدر الذي تتساءل فيه الشاعرة عن الوجود والخلود، فإنها أعطت روحا وخلودا للعدم والفناء. ومن خلال تقنيات الرمزية التعبيرية فان كما كبيرا من الشعر مبثوث في هذه القصيدة التي تمتع وتتوغل عميقا في النص وتنشر رسالة اجتماعية واضحة مما يحقق عناصر الابداع والرسالية الكاملة في هذه القصيدة.
Discussion about this post