/قصةقصيرة
في ظلال الحيرة حيث تهيم العقول، وبين أعمدة الكلمات الّتي تتشابك كخيوط عنكبوت عملاق، كان هناك رجل يدعى خضور الصّغير. وبما أنّ اسمه لا يثير الفضول اتّخذ لنفسه اسما حركيّا يدعى خدروفيسكي، كما أطال شعر رأسه ولحيته وشاربيه مقلّدا بعض الفلاسفة والكتّاب في عصر النّهضة
إلّا أنّ ذهنه كان عالماً مضطرباً، محكوماً بأفكار متشابكة وشعور دائم بأنّه الكاتب الأعظم الّذي لم يُنصفه الزّمن.
كان خضور يقضي أيّامه في مقهى صغير، تطفو على جدرانه بقع القهوة القديمة مثل آثار معارك فكريّة عنيفة. هناك، يجلس خضور برفقة دفتره البالي، يُمسك قلمًا غليظًا كأنّه يحمل سيفًا، ويبدأ بكتابة كلمات لا تنتمي إلى أيّ سياق معروف:
“في البداية، كان السّكون. لكن السّكون لم يكن سكونًا، بل كانت هالة غريبة، كأنّها صوت الصّمت يصرخ في الفراغ. والفراغ لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً بالشّعور باللاشيء.”
يمسح خضور جبينه، يحدّق في السّطور، ويبتسم. “يا له من عمق!” يتمتم لنفسه. “لن يفهمها العامة، بالطّبع، ولكن النّقاد سيدركون عبقريتي.”
وفي محاولة لخلق شخصيّة رئيسيّة فريدة، أطلق عليها اسم “العاصفة المُضادة”، شخصيّة لا تعيش في العالم الماديّ بل في بُعد متداخل مع أبعاد الرّمزية الغامضة. كتب عنها:
“العاصفة المُضادّة ليست رياحًا ولا عاصفة، بل هي فكرة. والفكرة ليست فكرةً، بل هي انعكاس للفراغ في مرآة التّنافر.”
ومع كلّ صفحة يكتبها، يشعر خضور بأنّه يقترب من المجد الأدبيّ. كانت الرّواية تمتلئ بجمل مثل:
“الزّمن مثل حذاء قديم؛ يضيق حين لا تحتاجه.”
“الشّمس ليست شمسًا، بل هي قمر مُقنَّع بالخديعة.”
“اللون الأزرق هو صرخة الألم في قلب الطّيف.”
وحين ينتهي من فصل طويل مليء بهذه التّأمّلات، يُسميه: “الفصل الأوّل: التّشريح اللازمني للكينونة المتلاشية”. كانت الفصول تمتد بلا غاية واضحة، وكلّما شعر بنقص في المحتوى، أضاف مشاهد عبثيّة:
“جلست العاصفة المُضادّة على كرسي من الهواء، ترتشف كوبًا من الشّاي المصنوع من الزّمن المنصهر، وتحدثت إلى ظِلِّها الّذي لم يكن ظلًا بل كان انعكاسًا لفكرة ظلّ.”
وفي محاولة لجعل النّص أكثر إثارة، أضاف مشهدًا آخر: “في منتصف الليل، حين تتشابك الأرواح فوق أسطح المباني الخاوية، سمعت العاصفة المُضادّة صوتًا لا يمكن وصفه. لم يكن صوتًا، بل كان إحساسًا يتحدّث من خلال صرخات الزّمن المكسور.”
كلّما عرض خضور مقاطع من روايته لأصدقائه في المقهى، كان يواجه بالصمت، وأحيانًا بتنهيدات عميقة. لكن خضور كان يفسّر ذلك على أنّه دليل على الدّهشة والانبهار. كان يقول بفخر:
“أعلم أنّ الأمر يتطلّب وقتًا لفهم عبقريتي، فليس من السّهل على العقول البسيطة أن تستوعب هذا المستوى من الإبداع.”
وذات يوم، قرّر إرسال مخطوطته إلى إحدى دور النّشر الكبيرة. كتب رسالة ملؤها الثّقة:
“إلى السّادة القائمين على الأدب العالمي،
أرفق لكم هنا روايتي الّتي ستغيّر مسار الأدب للأبد. أنا خضور الصّغير، كاتب الزّمن القادم. أرجو أن تُجهزوا أنفسكم لاستقبال العمل الّذي سيصبح معيارًا للعبقريّة.”
بعد أسابيع، وصله الرّدّ:
“السّيّد خضور الصّغير،
نشكرك على إرسال مخطوطتك. للأسف، لم نفهم مضمونها. نتمنّى لك التّوفيق في مشاريعك المستقبليّة.”
لم تُثنِ هذه الرّسالة عزيمته. بل ابتسم ابتسامة عريضة وقال: “هذا دليل آخر على أنّني سابق لعصري. سيأتي اليوم الّذي تُدرَّس فيه روايتي في الجامعات.”
وهكذا، استمرّ خضور في الكتابة، مقتنعًا أنّه ينسج أدبًا خالدًا، بينما يتوه قرّاؤه (إن وُجدوا) بين الكلمات المتشابكة، غارقين في بحرٍ من الرّموز الغامضة والأفكار الّتي تتناثر كأوراق خريفٍ لا تعرف اتّجاه الرّياح.
وفي لحظة تأمّل غريبة، قرّر أن يُضيف للرواية فصلًا جديدًا يحمل اسمًا أكثر غرابة: “الفصل الّذي لا ينتهي: انعكاسات الضّوء في مرآة الزّمن المحطّم”. في هذا الفصل، كتب: “حين تتلاقى الأبعاد، لا يبقى من الحقيقة إلا شظايا حلم مبعثر، والكون يصرخ في صمت أبديّ، معلنًا عن ولادة فكرة لا يمكن لها أن تُفهم.”
كانت روايته تنمو مع كلّ يوم، مثل نهر لا يعرف إلى أين يسير، لكنّه مستمر في الجريان. ومع كلّ صفحة جديدة، كان حامد يشعر بأنه يقترب من تحقيق خلوده الأدبيّ، حتّى وإن لم يدرك أحد سواه هذا الخلود.
عبدالناصرعليوي العبيدي
Discussion about this post