#دراسات_نقدية
قصيدة “غزة دُمِّرت” للشاعرة أمينة برواضي : قراءة في النص الشعري كمرآة للوجدان الفلسطيني وتفاعلها مع الأبعاد السياسية والفكرية للعصر.
نور الدين طاهري
إنَّ القصيدة “غزة دُمِّرت” للشاعرة أمينة برواضي تُعدُّ بمثابة شهادة فنية وأدبية على معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، وتقديما لواقعٍ مريرٍ لا تقتصر آثاره على الدمار المادي فحسب، بل يشمل تدمير الروح والمعنويات والهوية.
في هذه القصيدة، لا تقدّم الشاعرة صورة ماضٍ تليد يعيد الصدى لنشوة المقاومة فحسب، بل هي محاولة لتوجيه الضوء إلى أسئلة وجودية وقيم إنسانية تتعلق بالمقاومة والصمود، في ظل وضع سياسي معقد ومستمر من الاحتلال والتدمير. تنبثق القصيدة من منطلقات ثقافية وفكرية تتجاوز المحلي إلى العالمي، مفسرة بذلك تأثيرات الاحتلال على الإنسان الفلسطيني وأثره في الروح الثقافية العربية والإسلامية. لذا، سنخوض في دراسة تحليلية معمقة للنص الأدبي من حيث مكوناته الأسلوبية، اللغوية والفكرية، ثم نتناول بعد ذلك العلاقات الثقافية التي تربط هذا النص بمجموعة من القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية المعاصرة، لا سيما في المجتمع الفلسطيني والعربي والإسلامي.
إنَّ المضمون الذي تقدّمه الشاعرة في قصيدتها “غزة دُمِّرت” يتجاوز البُعد الشعري العاطفي التقليدي ليغدو تمثيلا مكثفا للواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني، مما يضع هذه القصيدة في قلب النقاشات الفكرية المعاصرة حول حرية الشعوب وحقوق الإنسان.
يتمثل المضمون الأساسي للقصيدة في تسليط الضوء على المأساة الإنسانية التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني في غزة، وتدمير المنازل، فقدان الأرواح، والانقسام الاجتماعي والسياسي يشكّل مجتمعة مشهدا من “الحرب الكونية” التي لا تميز بين الأطفال والشيوخ، بين السواد والبياض. إلا أن الشاعرة في المقابل، لم تقتصر على مجرد رسم الصورة المأساوية، بل حاولت رسم أفق آخر ينقض قوى الدمار الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، ألا وهو أفق المقاومة المستمرة على الرغم من التدمير المتواصل، بل انبثقت القصيدة في النهاية من منطلق أملٍ ينبض، ولو في خفوتٍ.
تنتمي هذه القصيدة إلى نوع الشعر الحر الذي لا يتقيد بالوزن والقافية التقليدية، ما يُعطيها حرية التعبير عن المأساة الفلسطينية دون التقيد بصيغ شعرية صارمة قد تعيق الرسالة الإنسانية العميقة التي ترغب الشاعرة في إيصالها. الشكل الحر يعكس انفجار الواقع الفلسطيني الممزق الذي لا يعرف الحدود أو الأطر الثابتة، كما أن تجنب الشاعرة للتقيد بالأنماط التقليدية يعبر عن رفض قسري للهيمنة الأدبية التي قد تكون رمزية في حد ذاتها لمؤسسات السلطة التي تطبق سياسات استبدادية. الشكل الشعري الحر، هنا، يصبح أداة تمرد ثقافي في حد ذاته، يساهم في إحياء التنوع الفعلي والتعبير الأدبي الصادق عن الشعور الإنساني النابع من قلب معاناة مستمرة.
البنية النصية للقصيدة تتسم بالاضطراب والتقطيع، وهو ما يتسق مع فكرة الاضطراب الفكري والنفسي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني. كما أن هذه البنية التي تنطوي على فقرات متراوحة في الطول والتسلسل الزمني تُظهر حالة اللامنطقية والتمزق الداخلي التي يسود بها الواقع الفلسطيني. لا تلتزم القصيدة بتسلسل منطقي أو خطي للأحداث، بل تتنقل بين الصورة الذهنية والمعنوية بشكل متوازي، إذ يُجسد ذلك حالة الازدواجية التي يعيشها الفلسطينيون بين الحاضر المنكوب والمستقبل المجهول. هذا التنافر البنيوي بين جمل القصيدة يتماشى مع فكرة الضياع الفلسطيني في زمن يفتقر إلى الأفق، لتبقى القصيدة نصا مفتوحا على المستقبل وملؤه التساؤلات.
اللغة في هذه القصيدة تتسم بالقوة البليغة والتكثيف العاطفي، حيث تتنقل بين الحميمية الذاتية للعاطفة والمجردية الفكرية التي تجعل من المفردات المستخدمة أدوات للتعبير عن الحقائق المتناقضة. في القصيدة، نجد أن الكلمات مثل “الدمار”، “الخراب”، و”الفقد” تحمل أبعادًا غير مجردة، إذ تحيل مباشرة إلى الواقع الملموس في غزة، بينما يمكن تفسيرها أيضًا كصور رمزية تُعبر عن حالات الهدم المعنوي والنفسي التي يمر بها الشعب الفلسطيني. الشاعرة تستخدم لغة مباشرة، لكنها تختار كلمات تمسك بقبضة القارئ وتشده لتفكير أعمق في الدلالات الفكرية والنفسية التي تحملها.
الأسلوب في القصيدة يميل إلى الاستفهام المتكرر والتعبير الإيحائي، حيث تعتمد الشاعرة على طرح أسئلة مفتوحة عن واقع غزة، ما يعكس حالة العجز التي يواجهها الفلسطينيون في ظل الوضع الراهن. هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابة واضحة، بل هي أكثر من ذلك تُظهر تدهور الوضع، الذي تزداد فيه التساؤلات عن معنى الوطن والحرية والكرامة الإنسانية. أسلوب الاستفهام لا يتوقف عند حدود سعي الشاعرة لفهم الواقع فحسب، بل هو أيضًا دعوة للقارئ للتفكير في المسؤولية الجماعية للأمة تجاه هذه القضية العادلة. علاوة على ذلك، فإن الأسلوب الإيحائي يعزز من قوة التعبير عن المأساة التي تتخذ أكثر من بعدٍ فلسفي، لتصبح قضية وجودية جماعية.
تُعد الصور الشعرية من أبرز السمات التي تمتاز بها القصيدة، وتعتمد الشاعرة على توظيف الرموز والإيحاءات لتصوير مشهد غزة المدمَّرة. على سبيل المثال، تُصور الشاعرة غزة “مُدمَّرة”، ولكنها لا تقتصر على الصورة المادية للدمار، بل تعكس أيضًا الدمار الثقافي والنفسي، بلغة تصويرية تقترب من الوجود الفلسفي. من خلال الصور الفائقة الدقة، ترسم الشاعرة مشهدًا يُظهر الصراع بين الحياة والموت، بين النور والظلام، مما يعكس حالة الانقسام الداخلي في العالم العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية.
الرمزية في القصيدة تظهر بشكل جليّ في تصوير غزة كرمز حي للمقاومة الفلسطينية المستمرة، وهو ما يتجسد في إصرار الشعب الفلسطيني على الحياة رغم كل المعوقات. الرمزية هنا تتجاوز النطاق الجغرافي لتغدو رمزا للهوية الفلسطينية التي لا يمكن تدميرها رغم القهر والدمار. كما أن الشاعرة توظف هذه الرمزية لتطرح أسئلة وجودية حول معنى الاحتلال في إطار أخلاقي وفكري، مما يُحوّل غزة إلى “رمز المقاومة” ضد القوى الاستعمارية التي تسعى إلى مسح الهوية الفلسطينية.
إنَّ العلاقة بين النص والمجتمع الفلسطيني تكمن في تصويره الدقيق للواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه الفلسطينيون في غزة. القصيدة تُقدم نموذجًا للمجتمع الذي يعاني من تشرذم داخلي بسبب الاحتلال، حيث ينكشف المجتمع في لحظة حاسمة من تاريخه، يتناقض فيه الأمل مع الدمار. رغم ذلك، يُظهر النص بأن هذا المجتمع لا يزال حيا في نضاله ضد قوى الاستعمار، وهو ما يُترجم في اللغة الشعرية على هيئة مقاومة أبدية تتجسد في كل بيت وأرض فلسطينية. هذا يربط القصيدة بالنظريات الاجتماعية حول الهوية والصمود في مواجهة الحروب.
فكر المقاومة الذي يُعبّر عنه النص هو امتداد للفكر الفلسطيني الذي يرى في المقاومة سلاحا فكريا وثقافيا ضد الاحتلال. الشاعرة تسعى من خلال هذا النص إلى تجسيد ملامح الفكر الفلسطيني الذي يتمثل في مقاومة الظلم والتمسك بالحقوق التاريخية. فهذه القصيدة هي دعوة لإعادة التفكير في مسألة التحرر الفلسطيني، حيث تتداخل الأسئلة الوجودية مع فكر مقاوم يأبى الاستسلام ويؤمن بالحرية على الرغم من الحروب المتواصلة.
السياسة الفلسطينية في القصيدة ليست مجرد سرد تاريخي لواقع الاحتلال، بل هي صراع سياسيّ مرير يُختزل في كلمات مشحونة باليأس والأمل. السياسة التي يتم تناولها في القصيدة، تشدِّد على أهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية في وجه التشرذم السياسي الداخلي، وتكشف عن حالة اللامبالاة الدولية والعربية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة.
القصيدة تدعو إلى إعادة الوعي بالقضية الفلسطينية على مستوى الأمة العربية والإسلامية، كما أن النص يُظهر غياب الدعم الكافي والمستمر من الدول العربية والإسلامية، متسائلة عن دور هذه الدول في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية. وبذلك، تصبح القصيدة صرخة ثقافية وفكرية، تدعو الأمة إلى النهوض من سباتها.
إيديولوجيا القصيدة تعتمد على مفهوم المقاومة بكل أشكالها، والتي هي أسلوب حياة، يعكس فكرا سياسيا يُؤمن بأن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع. الشاعرة في هذا النص تنتمي إلى هذا الفكر المقاوم، حيث تطرح بوضوح أن العودة إلى الأرض والحرية يمكن تحقيقها فقط من خلال النضال المستمر على جميع الأصعدة الثقافية والسياسية.
إذن، فإن قصيدة “غزة دُمِّرت” للشاعرة أمينة برواضي تُقدّم عرضا شاعريا محكما لمأساة غزة من مختلف أبعادها، بدءا من التدمير المادي وصولًا إلى الدمار النفسي والروحي، مع الدعوة المستمرة للمقاومة الثقافية والفكرية. هي قصيدة تنقض الواقع المأساوي من خلال الأمل في المستقبل، وهي في ذات الوقت نداءٌ للأمة العربية والإسلامية
لاسترجاع وعيها الجماعي لمساندة القضية الفلسطينية، وهي تكثيفٌ للفكر المقاوم في عصر تزداد فيه التحديات السياسية والثقافية.
———-
المرجع
“غزة دُمِّرت” للشاعرة أمينة برواضي
غزة دمرت
وكل البيوت بالأرض سويت
نظرات حزينة تجوب غزة
تبكي الأهل كما الديار
وأم لا تعرف الصبر
ونهر الدمع من العين يجري
على من رحل
ولم يترك غير الذكرى
وبقايا منه تحت الركام
وشيخ تحجرت الدمعة في العين
وغاب عنه الكلام
لم يجد ما ينعي به الزوجة والولد.
وعجوز تندب البلد
وكل من بالقبر سكن.
وطفل شارد النظر
ينقب في الركام
عن أشلاء أب قد رحل
يسأل والدمع من العين انهمر
كل من مر بالجوار
لماذا القتل؟
لماذا الدمار ؟
لماذا كل هذا الخراب؟
أهي الحرب شوهت المكان ؟
أم هو الزلزال بها حل؟
وهذا الخراب
لماذا يمتد ويمتد
على مرأى البصر ؟
يجيب الشيخ،
بعدما ضم الولد
جميع من راح في الجنة المستقر .
يقول الصغير وغصة في الحلق:
لكن الحزن في الصدر سكن
على قوم ما تبقى منهم غير الخبر.
لملم جراحك يا وطن
بعدما صار المكان أشباحا
وبقايا من أثر.
Discussion about this post