قصة قصيرة
د. ماجد عبدالقادر
البنت سمراء وعیناها جارحتان.. رصّت أكواب الشّاي أمامنا ولما مالت عليّ نزلت جدیلتها على كتفي وسكنتني رائحة جلبابها المعبق بالدّخان قالت أبو سكر خفیف ولما لمست أناملها كفّي كانت خشنة لكن وككلّ مرّة سرت فيّ من تیّارها رعشة.
الكرسي إحدى سیقانه غائبة وعليّ أن أمیل للأمام كي
یتّزن، السّحب الّتي تخرج من صدور النّاس تتجمّع على رؤوسنا .. ترقبنا وتدفئنا. لكنّ الجوال القدیم الّذي یسدّ فتحة الباب لمّا زحزحته ید وهتك الدّفء التّیّار البارد الّذي نفذ الینا.. طارت من یدي القصیدة الأخیرة وراحت تحت قدمیها عند النّصبة .. كانوا منعوها من النّشر في مجلة الكلیّة لأنّها تنادي على عروسة البحر الّتي تتلاعب الرّیح بتنّورتها فتحلّ مریلتها الكحلیة وتنزل إلى النّهر تتحني فیه. الرّجل كان دخل ورمى صندوقه جوار الجدار المقام من الطّین والخوص المعشق ببعضه وأراح صدغه على كفّه المنقوشة بالورنيش وتنهدّ .. يانسون.. یاریت لو یمكنه حین یبصق یأتي صوته أقلّ حدّة ما كان أفزعني فانتفضت وانفلت من بین كفَّي البنت وهي تمرّر أناملها بین شعري.
فرك عم میلاد النّصف جنيه الفضة بین أصابعه البیضاء الدّقیقة ورمى به علي البنك وأنصت لصوته وهو یدور ..یدور.. حتّى تتباطأ سرعته ثمّ یكن.. أنفاس كنت أكتمها في صدري لكنّه لما بصّ ناحيتي بعینه “الأزاز” وزمّت شفتاه وهو یقول برّاني كنت أودّ لو أرى سامي الآن ونكون معا على شریط السّكّة الحدید نلعب ملك وكتابة فأرمیه تحت القطار لأنّه ضحك عليّ.. شوفه تاني یا عم میلاد والنّبي لكنّه ینزعه من كفّي ویدقّه في حافة البنك ..عشان تستریح ..یلا روح بقا.
أشوط الأحجار بقدمي .. كانت علبة صفیح سنها مشرشر فتحت بوز الحذاء الّذي البسه بلا شرّاب وشقّت إصبعي .
صرخت.. لكنّها كانت في الشّبّاك تضحك وتقول یا عیل كلّ ده من تعویرة صغیرة لكنّها لمّا رأتني أعرج والدّم ينسال من رجلي لیمتزج بالتّراب .. قالت: استنى وفتحت الباب المطلّ على الجنینة ونزلت ورائي .. كنت لا أرید أن أكلّمها لكنّها لحقتْ بي على أوّل الزّقاق وقالت: لو مجيتش هشیلك.. في بیتها خلعت لي الحذاء ولما كشفت الجرح ووجدته غائرا في اللحم والظّفر طار خالص ..
حطّت علیه قطنة بمیركروكروم ولفّته بالشّاش وقالت لازم حقنة جایز یتلوّث .. كانت تغلي الحقنة على السّبرتایة في المطبخ لما سهیتها وبشویش فتحت الباب وانسحبت للخارج.
یومها كانت أجازة نصف السّنة.. أجلس أعلى السّاقیة الّتي تدور ومن وقت للآخر .ألسع مؤخّرة البقرة بعود حطب ثمّ أعود أقرأ في الكتاب ذي الأوراق الصّفراء .. كان یحكي عن بنت ملك من ملوك الجان عشقت صیّادا فقیرا وكانت تعطیه كلّ یوم سمكات ليس لها مثیل لیبیعها لكنّها تستحلفه ألّا يفشي سرّها ولمّا أراد النّاس اجباره على الكلام .. سحرت عیونهم وأخذته من بینهم بعیدا.. معها في سابع بحر.
كانت مریم قد تسلّلت ورائي وغمّت بكفّیها عیني ولما رفعتها جلست إلى جواري وأخذت تقلب في صفحات الكتاب ولمّا سألتني أن أشوف لها فيه حد قاعد على الجسر وقلت مفیش .. فكّت طرحتها من على رأسها وسحبت
ذيل جلبابها ذي الورود الكبیرة وانفلتت منه وقالت: أنا هأنزل استحمّ في بیر السّاقیة.. خلي بالك لو حد جه أعطیني إشارة.
سیقان القمح كانت تتمایل والسّنبلات ذهبیّة تنقش الأرض وعلى الجوانب نوارات البرسیم تتفتّح على استحياء ..
والماء یجري في القنایات یشقّ الأرض العطشى وینساب بين شقوقها يفتّتها إلى حبیبات دقیقة ویحیلها إلى عجینة هشّة طریّة أمدّ یدي وآخذ منها حفنة طین ابدأ في تشكیلها من جدید.
اللیل عجوز أطرش وأعمى كانت تقول الجدّة.. انتظرت حتّى ناموا جمیعا وعلى أطراف اصابعي دخلت حجرة أبي وسحبت مداسه ورحت الزّريبة .. البقرة كانت تبصّ لي بعیونها الواسعة خشیت ان ترفس كعادتها فتدوس أحد الفراریج أو تدلق ماجور العجین الّذي سابته أمّي لیخمر..
أرمي لها بحزمة برسیم تتلهّى بها عنّي.. أعتلي الفرن وأحشر المداس بین الجلباب والسّروال..
أقفز لتصل یدي لقمة السّور وأبدأ أدسّ بطن قدمي بین أحجاره وأزحزح وسطي لأعلى ..
في الطّریق إلى البحر نبح علي كلب غریب فكلاب البلد تعرفني وتهز ذیلها إذا ما رأتني .. رمیته بحجر بین ضلوعه ففرّ .. على الجسر كان یتكوّم جسد أسود ینتحب بصوت خفیض.. تخرج نهنهاته الّتي أخفق في كتمها منقطعة كسیرة.. راودتني نفسي في الرّجوع.. لكنّ شیئا ما كان یجذبني إلیه ویجعل قدمي كلما أردت أن أتّجه بهما للبیت تروحان على الرّغم منّي ناحیته ..
لما انكسرت تحت قدمي ساق الغاب قالت دون أن تلتفت تجاهي: كنت عارفة إنك هتیجي وقالت: أنّها من ساعة ما ضربني أبي وهي في سریرها تبكي وأن طول ما العصایة كانت تنزل على جسدي كانت تحس أنها سكاكین تقطع في قلبها.
كان الكتاب الذي اعطته لي وخبّأته في السّحارة بين الهدوم قد وقع في ید أمي ولما رأت فیه صور البنات ينزلن البحر وقد صبغت شمس المغربية أجسادهن بماء الورد .. أخذته وورته لأبي الذي ظل یضربني لأبوح له عمن أعطاه لي .. لكنني والعصا حارقة تلهب جسدي لم أقل.
قالت :إن هذه اللیلة ربما تكون آخر لیلة لها في البلد لأنها خلاص ستركب القطار في الفجر وتروح مع عم میلاد إلى دمیانة لیتركها هناك في الدیر الكبیر ویرجع . دسست یدي في عبي وأخرجت مداس أبى ورمیت بفردة في البحر ضحكت فناولتها الأخرى وصحت فیها ..یلا.. أخرجت من تحت طرحتها قطعة خبز وقسمتها بیني وبینها وقالت اوعك تنساني .. شفتان ترتعشان تركتهما على جبیني وراحت.
كانتا عائدتین من عندها.. أمي وأم سامى .. حكیتا عن المبني الكبیر المحاط بالسور العالي والشبابيك الهائلة بزجاجها الملون والمنقوش بالرسوم التي تخطف الأبصار إذا ما انعكست علیها وداعبتها أشعة الشمس.
حكیتا عن الحدیقة التي تطلع فیها فاكهة الصیف والشتاء معا وعن الراهبة العجوز ذات العینین في صفاء السماء التي سلمت علیهما بأنامل رقیقة ناعمة.
حكیتا عن العجزة والمجذومین والنساء العاقرات وهم یسألون الشفاء ببركة القدیسة المباركة التي أحرقها الكفرة فتحول جسدها لنور أضاء بقعة الأرض التي بنوا علیها كنيستها، ومازلت تضيء.
لكنني لما سألتها عن مريم قالت لي أمي:
دي سبحة من مولد الست دميانة خدها تحميك.
قال لي الطّبیب: عندك سیولة في الدّم.. من العجیب أنّك حيّ بعد كلّ هذا النّزيف.. حاول ألّا تقطع شريانك بالموس مرّة أخرى .
نوافذ المستشفى كانت تطلّ على محطة القطار .. نادیت على ولد كان یقطف زهرة نرجس بید تنفذ من السّور..
رمیت له بفلوس وقلت: هات لي علبة سجائر.. مرّت بیني وبینه في خمارها..غمز لي ونادى علیها یا أخت روما.
د. ماجد عبدالقادر
مصر
Discussion about this post