الحوار البلاغي بين ارستقراطية النخبة وبلاغة الجماهير
بقلم: الدكتور رجب إبراهيم أحمد
ظلت البلاغة تتسم بأداء دورها النخبوي حين كان لا يمارسها إلا النخبة ولا يتصور أبدا أن تتغير الأدوار ويصبح العامة هم أهل الكلام وأصحاب المنصات القولية فقد كان هذا الحال غير ممكن وقد لاقى كلام الجماهير استهجان النخبة من المثقفين للدرجة التي وصفهم بها ألبرتو إيكو السيميائي والروائي الإيطالي حين رآهم على منصات التواصل الاجتماعي بأنه “غزو البلهاء”(1)ويرصد هذا السلوك المتعاظم الموصوف بالنبوي عبد القذامي حين يصف الذات المتعالية للنخبة متمثلة في “نعوم تشومسكي” الذي ظن أن منصات القول إنما هي مقصورة على النخبة دون العامة أو البلهاء على حد وصف إيكو. فتشومسكي الذي “دخل إلى تويتر بنية البروفسور وليس بنية التفاعلي وحين أعيته الحيلة في جرِّ تويتر إلى مراده راح ينتقد خطابات المواقع التفاعلية بعامة وعجزت نخبويته أن تفتح عينيها على المتغير الثقافي النوعي بانكسار زمن النخبة وثقافة النخبة وبروز الشعبي بقوته العددية والثقافية ذات المزاج المختلف”(2). ويأتي مشروع “بلاغة الجمهور” ليفصل في مسألة هل الحوار البلاغي نخبوي أم جماهيري. فهو يقرر أنه آن الأوان ليلعب لجمهور دوره في الحوار بوصفه محورا رئيسا في العملية الخطابية وهذا ولا شك يؤسس لمرحلة جديدة من مراحل تطور البلاغة، حيث تنتقل من المخاطِب إلى المخاطَب، ومن النخبة إلى العامة، ورصد أثر هذا التحول في شتى اتجاهات الحياة اجتماعيا، وسياسيا، ودينيا، والانتقال بالجماهير من التأثر إلى التأثير. وتلك هي روح البلاغة الحقيقية وغايتها المقصودة.
إننا لا يمكن أن نغفل دور الجماهير حتى ولو اشتدت وطأة الطبقية الظالمة التي كان العلماء ركنا في تأصيلها وثباتها. هذه الطبقية التي كانت حجر عثرة في قبول فكرة نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم:” وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ”(الزخرف:31).تلك الطبقية الحمقاء هي التي داست بمنسمها الجماهير، والعامة، وغالبا “ما يثير الجمهور والجماهير ريبة وجلة تخفي الاحتقار. ولم يدخل الجمهور والجماهير زمنا طويلا ميادين التاريخ والأدب حتى علم الاجتماع إلا على استحياء، ألا تعرض الجماهير نفسها للنظر والذهن على أنه أشبه بكتل كيانات مبهمة عديمة الشكل وساكنة شبيهة بالأشياء”(3) .
لقد عاشت الجماهير منسحقة تحت أقدام هذا التجاهل الذي فرضته الطبقية لعدة قرون وحتى زمن قريب،دون أن يكلف النحبويون أنفسهم عناء البحث في نفسية الجماهير، الأمر الذي حدا ب”جوستاف لوبون “أن يقول عنهم: “لنلخص كل الملاحظات السابقة قائلين بأن الجمهور دائما أدنى مرتبة من الإنسان المفرد، فيما يخص الناحية العقلية والفكرية. ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوء، وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها،وهذه هي النقطة التي جهلها الكتّاب الذين لم يدرسوا الجماهير من وجهة النظر الجرائمية. صحيح أن الجماهير غالبا ما تكون مجرمة، ولكنها غالبا ما تكون أيضا بطلة. فمن السهل اقتيادهم إلى المذبحة والقتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية أو فكرة ما. ومن السهل تحريكهم ،وبث الحماسة في مفاصلهم من أجل الدفاع عن الشرف”(4)
وفي السياق ذاته يقول سيجموند فرويد عن الجمهور:”الجمهور سريع التأثر، سريع التصديق، يعوزه الحس النقدي،ولا وجود في نظره للمستبعد الحدوث…لا يعرف الجمهور شكًّا ولا يقينا”(5).
ولا شك أننا أمام معنى مغلوط عند لوبون، وفرويد، فالجماهير ليست واحدة،وإنما هي متنوعة ومختلفة بحسب اعتبارات كثيرة بيئية، وزمنية، وأيدلوجية. ولعل الجماهير التي يقصدها كل منهما هي الجماهير المصنوعة على عين السلطة السياسية والدينية التي استعبدتهم بسلطان الجهل والخوف. ولهذا”يسهم الكاتبان السابقان بوعي،أو دونه في تقوية مفهوم السلطة والنخبة، كما يتحولان إلى درس تعليمي تعرف من خلال السلطة كيف تضاعف من إمساكها برقاب الجماهير المغلوبة على أمرها”(6)
ـــــــــــــــــــــــــــ
( ) سعيد العوادي،الجماهير البليغة،محاورة مع المشروع البلاغي للدكتور عماد عبد اللطيف،مجلة المصدر،العدد(5)ديسمبر2017.ص209.
(2) الغذامي،عبد الله،ثقافة تويتر:حرية التعبير أو مسؤولية التعبير ص24.
(3) فراسوا بيرو،الجمهور والطبقة.ترجمة ناجي الراوشة، ص5.
(4) جوستاف لوبون،سيكولوجية الجماهير،ترجمة وتقديم هاشم صالح، ص61.
(5) سيجموند فرويد،علم نفس الجماهير،وتحليل الأنا،ترجمة وتقديم:جورج طرابيش، ص33.
(6) الجماهير البليغة ص213.
Discussion about this post