#قراءة_نقدية
جدلية الانتظار والوجود: في قصيدة ” في انتظار الموعد” للشاعرة بشرى طالبي
نور الدين طاهري
قصيدة “في انتظار الموعد” للشاعرة بشرى طالبي نصّ شعري مشحون بطاقة وجدانية تتوهّج بين لهيب الشوق ومرارة الانتظار، ويتجاوز الحبّ كونه عاطفة عابرة ليغدو تجربة كونية تنسج تفاصيلها الروح في ضوء الرجاء وانكسار الخيبة. فالانتظار هنا ليس مجرد لحظة زمنية مجمدة، بل هو كينونة ممتدة، تتلبّسها الذات، وتتشظّى بين أمل اللقاء وسراب الوصال.
تفتتح الشاعرة قصيدتها بلوحة مائية تتأرجح بين الثبات والانجراف، بين السكون والاضطراب، فتقول:
“على شاطئ قلبك، أرسيت سفينتي،
وفي بحر عينيك، ألقيت مرساتي،
في انتظار الموعد…”
تبدو الذات العاشقة هنا كبحّارة متعبة، ألقت بمجدافها واستسلمت لهبوب الأقدار، معلقة بين مدّ الأمل وجزر الخذلان. إن البحر ليس مجرد استعارة للحبّ، بل هو مجازٌ للقلق الوجودي، إذ لا استقرار ولا يقين، بل مجرد مراوحة دائمة بين الرسوّ والارتحال. وتعبير “ألقيت مرساتي” ينطوي على دلالة مزدوجة؛ فمن جهة، يحمل معنى البحث عن الطمأنينة والاستقرار، ومن جهة أخرى، يشي بالخضوع لمصير متقلب، إذ لا مرساة تضمن التثبيت الأبدي في بحرٍ لا يكفّ عن الهيجان.
تتوالى الصور الحسية التي تنسج حالة الانتظار، فنقرأ:
“تحدثني عنك آهاتـي،
تنسج من الليل أمنياتي،
وتهمس لي: هذه ليلتي…”
هنا، يأخذ الليل طابعا وجوديا؛ فهو ليس مجرد فضاء زمني، بل كائن يشارك الذات حيرتها، يتقمّص دور الرؤى الحالمة، فينقلها إلى عالم مواز تتماهى فيه الأمنيات مع الهمسات، كأن العاشقة تعيش حالة غيبوبة وجدانية، ويصبح الليل رسولا للأمل، لكنه في ذات الوقت يرسّخ العزلة ويكرّس الوحدة.
ثم تتصاعد اللغة الشعرية إلى ذروة تصويرية مدهشة، حيث يتم تأليه المحبوب وجعله قوة كونية تتجاوز الحضور الإنساني العادي:
“يا سيدي،
ما بال الأرض تهتز لوقع خطاك،
فينتشي لها الزهر والعطر والندى،
ويشدو الطير، ويهفو لطيب لقياك،
كأنك في الكون نجم طارق،
تتهاوى من عليائك لعيون ليلاك.”
نحن هنا أمام استحضار شبه أسطوري للمحبوب، إذ يتحول إلى مركز كوني تدور حوله الموجودات، فتتراقص الأرض لخطاه، وينشد الطير لأجله، وكأن الطبيعة بأسرها تدخل في حالة انتشاء لمقدمه. ثم تأتي الصورة البصرية القوية “كأنك في الكون نجم طارق”، التي تحيل إلى الضوء الهابط من علياء السموّ، لكنها في ذات الوقت تستبطن معنى العابر، غير الثابت، إذ أن النجوم الهاوية لا تلبث أن تختفي في غياهب الفضاء، تماما كما هو حال هذا العشق المتأرجح بين الأمل والخذلان.
ثم نصل إلى لحظة التحوّل في الخطاب، حيث تخرج العاشقة من دائرة الانبهار إلى مساحة الرجاء المشوب بالعتاب:
“فيا مهجة روحي… كفاك ترفعا،
وجد بالوصل لقلبٍ ما جفاك.”
هنا، تنتقل الذات من التمجيد إلى استجداء التواضع، وكأنها تحاول استعادة توازن العلاقة. لم تعد الحبيبة تلك المعلقة في سماء التقديس، بل تحاول أن تستردّ حقها في الحبّ، أن تُذكّر المحبوب بأنها لم تكن يوما من الجافين، وإنما من المنتظرين بإصرار.
غير أن القصيدة تأبى أن تستكين، فتدفعنا نحو أفق أعمق، ويتجلّى الانتظار كدوامة وجودية تتكرر بلا انقطاع:
“تعب البحر مني ومن حكاياتي،
من سكناتي… ومن حركاتي،
وما تعبت، ألقي فيه مرساتي،
وأرفعها في اليوم آلاف المرات.”
إن التعبير هنا ينطوي على بعد فلسفي خالص؛ البحر، هذا الكائن الذي يفترض أنه لا يملّ، ها هو ينهك من تكرار الحكايا، من سكون العاشقة وحركتها، وكأنه انعكاس لحالتها المضطربة. لكن المفارقة أن العاشقة نفسها لا تستسلم، فهي تُعيد ذات الفعل كل يوم، ترسو وترحل، تُلقي مرساتها ثم ترفعها، في حلقة عبثية تُعيد تكرار ذاتها بلا مخرج.
وتبلغ القصيدة ذروتها الفلسفية عندما تستحضر مرجعية دينية مشحونة بالدلالات:
“فلا أنا بلغت مجمع البحرين لدنياك،
ولا سرت في آثارك حقبًا للقياك.”
هنا، يُستدعى مجمع البحرين، ذلك المكان الذي ارتبط بقصة موسى والخضر، ويرمز إلى اللقاء الاستثنائي، إلى المعرفة المطلقة، إلى اكتشاف الحقيقة الكبرى. غير أن العاشقة تقرّ بأنها لم تصل إليه، تماما كما لم يتمكن موسى من إدراك سرّ الخضر رغم طول المسير. إنها إذن رحلة حبّ تتخذ شكل رحلة بحث، لكنها رحلة لا تنتهي، بل تدور في دائرة مغلقة.
ثم تأتي الخاتمة، التي تحفر في صميم الوجود، حيث يصبح الانتظار هوية بحد ذاته:
“فأت… أو لا تأتي،
أنا… في انتظار الموعد.”
إن هذا الختام الحادّ يُجسّد اكتمال التحوّل؛ لم يعد اللقاء أو عدمه هو القضية، بل صار الانتظار بحدّ ذاته جوهر الوجود. لقد تجاوزت العاشقة حاجز الرجاء أو الخيبة، فلم يعد يهمّها إن أتى المحبوب أم لم يأتِ، لأن جوهرها بات مرتبطا بهذا الترقّب السرمدي، وكأنها تجسيد لأسطورة سيزيف، الذي يدفع صخرته يومًا بعد يوم، دون أن يبلغ القمة.
اللغة في قصيدة “في انتظار الموعد” للشاعرة بشرى طالبي تتميز بالرصانة والعمق، إذ تبتعد عن المباشرة في التعبير لتسحب القارئ إلى عوالم ذات بعد فلسفي عميق. تستند الشاعرة في التعبير عن مشاعرها إلى لغة شاعريّة غنية بالصور المجازية والاستعارات التي توظفها بشكل مبتكر، مما يساهم في إضفاء طابع غنائي مميز للنص. القصيدة لا تسير على خطى الوضوح الجلي، بل تتنقل في مناطق ملبدة بالغموض، لكنها تفتح للقارئ أبوابا من الفهم الملتبس الذي يُحفز على التأمل والتفسير.
الأسلوب في القصيدة يتسم بالتحاور بين الشاعرة وذاتها، وبينها وبين معشوقها المنتظر. يتجلى هذا الأسلوب في التنقل بين السرد المباشر والانزياح اللغوي، مما يمنح النص حركة وسلاسة. تخلق الشاعرة توازنا بين الشاعرية التي تتمثل في الحس العاطفي المرهف، والشعرية التي تجسد الأسلوب الفني المبتكر من حيث بناء الجمل والأنماط الإيقاعية.
الصورة الشعرية في القصيدة تلتقط لحظات الوجود الإنساني في أبهى صورها، فتُشبع النص بالأبعاد الرمزية. على سبيل المثال، عندما تقول الشاعرة “على شاطئ قلبك، أرسيت سفينتي”، تُستخدم الصورة الشعرية للتعبير عن الاستقرار الظاهر وسط العواصف العاطفية، فالقلب هنا يُمثل الأرض التي لا يمكن للشاعرة إلا أن تترك فيها مرساها بعد أن طافت في محيط العاطفة، فيما تُصوّر السفينة التي تمثل الذات البشرية الباحثة عن الأمان.
الصورة الشعرية تُعززها استعارات مثل “في بحر عينيك، ألقيت مرساتي”، ويتم تحويل العينين إلى بحر لا تهدأ أمواجه، ليُعبر عن التيه والشوق الذي يكتنف الشاعرة. الصور المتشابكة تُسهم في خلق عالم متعدد الأبعاد، يمزج بين الأبعاد النفسية والعاطفية. تلك الصور لا تقتصر على تمثيل حالة العشق فقط، بل تدور حول دوامة من الصراع بين الرغبة في التمسك وبين القلق الناتج عن الخوف من الفقد.
أما في استخدام الشاعرة لعبارة “كأنك في الكون نجم طارق”، فقد قدمت صورة مجازية عالية القدرة على الإيصال، ويجعل الحبيب في هذه الصورة بمثابة النجم الذي يدخل الكون كله بضوءه، مما يعكس نوعا من التأثير الفائق، وحضورا يستحيل تجاهله. إنها صورة قوية تعزز من هالة القدسية والعلو التي يشعر بها العاشق تجاه من يحب.
ثم يأتي استخدام التكرار، مثل “وأرفعها في اليوم آلاف المرات”، كأداة بلاغية تبني فكرة الانتظار المتكرر والمتجدد. التكرار في هذه الحالة ليس مجرد أسلوب لتأكيد الفكرة بل هو شكل من أشكال التعبير عن التجدد الدائم للمشاعر والأمل، الذي لا يتوقف رغم شدة اليأس. التكرار ينغمس في الذهن ليشكل إيقاعا داخليا يكشف عن تكرار المعاناة وانتظار اللقاء.
الشاعرة أيضا تُوظف الرمز بشكل دقيق، فتعتبر البحر مرآة لعواطفها المتقلبة، ولكنها لا تقتصر على الجانب السطحي للرمزية، بل تعمقها لتصبح رمزا للمعاناة المستمرة في حياتها العاطفية. التكرار الذي تعيشه الشاعرة في علاقتها مع البحر ليس مجرد حركة ميكانيكية، بل هو تجسيد لحالة نفسية متجذرة في قلب الشاعرة، تشبثا بالأمل وحلما يقظة، رغم الوعي التام بعجزه عن الوصول إلى الفاعلية المطلوبة.
من خلال هذه الصور الشعرية المتنوعة واللغة الرفيعة، تحقق الشاعرة توازنا بين التفاعل العاطفي مع الطبيعة، وبين استنطاقها للأعماق النفسية التي تنبثق منها. الشاعرة لا تقتصر على استخدام الكلمات بل تمارس عبورا مبدعا عبر الطبقات الرمزية التي تشكل الخلفية الثقافية والفكرية للشعر ذاته.
إن قصيدة “في انتظار الموعد” ليست مجرد بوح عاطفي، بل هي نسيج متداخل من الرموز والصور، ويتحول الحبّ إلى حالة وجودية، تتجاوز العلاقة الثنائية بين العاشقة والمحبوب، لتغدو تأملا في معنى الانتظار نفسه، في التحوّل من الرجاء إلى المصير، من التعلّق بالأمل إلى استبطان الحالة كجزء لا يتجزأ من الذات. لقد استطاعت بشرى طالبي أن تنسج نصًا يضجّ بالحياة، لكنه في ذات الوقت يحفر عميقا في طبقات المعنى، ليمنحنا قصيدة لا تُقرأ وحسب، بل تُعاش، بكل ما فيها من وجد وانكسار، من يقين وحيرة، من انتظار… لا ينتهي.
——
المرجع
في انتظار الموعد
✍️بشرى طالبي
على شاطئ قلبك،
أرسيت سفينتي،
وفي بحر عينيك،
ألقيت مرساتي،
في انتظار الموعد…
تحدثني عنك آهاتـي،
تنسج من الليل أمنياتي،
وتهمس لي: هذه ليلتي…
يا سيدي،
ما بال الأرض تهتز لوقع خطاك،
فينتشي لها الزهر والعطر والندى،
ويشدو الطير، ويهفو لطيب لقياك،
كأنك في الكون نجم طارق،
تتهاوى من عليائك لعيون ليلاك.
فيا مهجة روحي… كفاك ترفعا،
وجد بالوصل لقلبٍ ما جفاك.
تعب البحر مني ومن حكاياتي،
من سكناتي… ومن حركاتي،
وما تعبت، ألقي فيه مرساتي،
وأرفعها في اليوم آلاف المرات.
فلا أنا بلغت مجمع البحرين لدنياك،
ولا سرت في آثارك حقبا للقياك.
فأت… أو لا تأتي،
أنا… في انتظار الموعد.
Discussion about this post