#قصة_من_الواقع
فاجعة يسرى
نور الدين طاهري
هبط المطر بغزارة، كأن السماء تفجّرت حزنا أو غضبا، فانطلقت السيول كوحش جامح يلتهم كل ما يقف في طريقه. كانت مدينة أبركان تختنق بالمياه المتدفقة، بينما الشوارع تحوّلت إلى أنهارٍ موحشة، تبتلع الأرصفة والطرقات، وتجرّ معها أحلاما لم تكتمل.
عندما انجرفت قدم يسرى الصغيرة في تيار الماء، شعرت أن الأرض قد سحبت من تحتها فجأة. لم تفهم في البداية ما كان يحدث، كانت تقاوم، تحاول التمسك بالحافة، لكن المياه القذرة لفّتها كالأفعى، جذبتها بقوةٍ مرعبةٍ إلى الأسفل. صرخت، لكن صراخها تلاشى وسط ضجيج المطر وصوت المياه الهادرة.
في تلك اللحظة، شعرت بشيءٍ غريب، وكأن العالم كله قد تبخّر، لم يعد هناك شارع ولا بيت ولا أم تنادي عليها لتعود إلى الداخل. فقط برودة قاسية تخترق جسدها، وضوءٌ خافت يرقص في عينيها المتسعتين من الرعب. قلبها الصغير كان يضرب صدرها بعنف، تحاول أن تتنفس، لكن الماء يتسلل إلى فمها، إلى رئتيها، يشلّ قدرتها على الحركة.
بدأ جسدها يترنح وسط المياه، شعرت كأنها تطير، لا تدري هل هي تصعد أم تغرق. وجوهٌ مرت أمامها، وجوه عائلتها، صوت أمها وهي تناديها صباحا، ضحكاتها مع صديقاتها، ألعابها الصغيرة التي تركتها في الزاوية قبل دقائق. كانت كل هذه الذكريات تنهال عليها كشريطٍ يسرع نحو نهايته المحتومة.
“أمي… أين أنتِ؟”
لم تسمع أحدا يجيب. فقط صوت الماء يخبرها أن النهاية قريبة، وأن الظلام الذي يزحف نحوها لن يترك لها فرصة للعودة.
في تلك اللحظة، كان والدها يراقب من بعيد، غير مصدق لما يحدث. شعر بقلبه يخفق بشدة عندما شاهد ابنته تنزلق في المياه الجارفة. هرع نحوها محاولا الوصول إليها قبل أن تختفي في الحفرة العميقة، لكن فجأةً فُتحت أمامه فجوة أخرى، واندفعت مياه غزيرة بسرعة. حاول التمسك بشيء، لكن قدمه زلت، فسقط في الحفرة، وكاد أن يغرق في الماء الموحل. لولا تدخل أحد المارة في اللحظة الأخيرة، الذي أنقذه بأعجوبة، لكان مصيره مشابها لمصير ابنته.
كان الأب في حالة يرثى لها، أصيب بجروح خطيرة نتيجة السقوط في الحفرة، لكن الأمل كان لا يزال يراوده. بينما كانت يسرى قد اختفت تماما عن الأنظار.
بعد ساعات من الزمن، وقفت أمها على عتبة البيت، تبحث بعينيها القلقتين عن ابنتها. نادت بصوت مرتجف:
“يسرى؟! أين أنتِ؟!”
لكن الشارع كان صامتا، وكأن المطر قد طمس كل أثرٍ للحياة. خرجت إلى الخارج بخطواتٍ متسارعة، تبحث بين المارة، بين السيارات التي توقفت خوفا من الفيضان، نظرت إلى السيول التي تجرف كل شيء، وفجأة، ضربتها الحقيقة كصفعةٍ على وجهها.
انهارت على الأرض، قلبها يضرب صدرها كطبول الحرب. لم تكن قادرة على التنفس، وكأن المياه التي جرفت يسرى قد سحبت معها روحها. أخذت تركض في الشارع، تمسك بكتفي كل من تراه، تصرخ بجنون:
“ابنتي! أين ابنتي؟! كانت هنا… كانت أمام الباب!”
لم يكن أحد يعرف. الجميع كان يحاول النجاة، كلٌّ يهرب من خطر المياه المتدفقة، لكن لا أحد شعر بذلك الفراغ القاتل الذي حلّ داخلها. كانت تبكي، لكن دموعها لم تكن سوى امتدادٍ لذلك المطر الذي لم يتوقف عن الهطول، كأنه يبكي معها.
لم تكن هذه أول مرة تبتلع فيها السيول طفلا في أبركان، لكن هذه المرة، كان الأمر أشد قسوة. انتشرت الأخبار بسرعة، وامتلأت الشوارع بالغضب. الناس لم يعودوا قادرين على الصمت، تجمعوا في الساحات، في الأزقة، أمام مكاتب المسؤولين، يصرخون بصوتٍ واحد:
“إلى متى؟ كم من طفل يجب أن يموت قبل أن تتحركوا؟”
كان الغضب في العيون، في القبضات التي تُرفع في الهواء، في الشتائم التي تطلق على كل من ترك المدينة تتحول إلى فخٍ قاتل. وسائل الإعلام كانت هناك، الكاميرات التقطت كل شيء، لكن هل ستلتقط صورة العدالة يومًا؟
وقف أمام الحشد، مثقف شاب، صرخ قائلا:
“هذه ليست كارثة طبيعية، هذه جريمة! من ترك الطرقات بلا تصريف؟ من ترك البالوعات مفتوحة بلا حماية؟ هذه ليست أول مرة، لكن يجب أن تكون الأخيرة!”
كانت كلمات الغاضبين تصعد إلى السماء، لكنها لم تكن تصل إلى حيث يجلس المتهاونون في مكاتبهم.
لم تهدأ العاصفة، لكن القلوب التي اجتمعت تبحث عن يسرى كانت أكثر اضطرابا من السماء الغاضبة. خرج سكان الحي، رجالٌ ونساء، وشيوخ، كلهم يحملون الأمل الهشّ في أن يجدوا الصغيرة على قيد الحياة، متشبثة بزاوية ما، مختبئة من التيار الجارف.
ساعاتٌ طويلة من البحث مرّت كأنها الدهر، والمطر ينهال بلا رحمة، يغسل الشوارع لكنه لا يمحو الخوف من القلوب. امتدت الأيادي تفتش بين الأنقاض، في زوايا الأرصفة، في الأزقة الضيقة، خلف الجدران المتهرئة بفعل الماء. الأضواء الخافتة للهواتف والبطاريات اليدوية تتراقص فوق الأسطح الرطبة، تتنقل بين الوجوه المبللة بالدموع والمطر معا.
ثم… جاء الصوت المرتجف:
“وجدناها… وجدنا يسرى!”
لكن البشرى لم تحمل الأمل، بل أسقطت صاعقة أخرى فوق القلوب.
كانت يسرى هناك، ممددة فوق صخور وادي شراعة، جسدها الصغير مستسلمٌ للمياه التي جرفته بعيدا عن منزلها، بعيدا عن الباب الذي كانت تلعب أمامه قبل أن يبتلعها التيار. شعرها الأسود التصق بوجهها الصغير، وملابسها غارقةٌ في الوحل والماء البارد.
لم يكن هناك صراخ ولا نحيب في البداية، بل صمت ثقيل، كأن الجميع قد فقد القدرة على التنفس للحظة.
ثم… انطلقت العاصفة البشرية.
عندما وصل الخبر إلى عائلة يسرى، كان الوقت متأخرا، لكن الألم لا يعرف الليل من النهار. هرع الأب، يتبعه الجيران الذين حاولوا تهدئته دون جدوى. الأم، ركضت حافية القدمين، لم تشعر بالأرض الموحلة تحتها، لم تسمع أصوات الناس من حولها، كانت تركض فقط، بقلبٍ ينزف، بيدين ممدودتين كأنها تريد أن تنتزع ابنتها من براثن القدر.
وحين وصلت إلى الوادي، رأت الجسد الصغير ينتظر على الصخور، منتظرا الخبرة العلمية، منتظرا العدالة التي لن تأتي، منتظرا حضنها الأخير.
لم تتحرك، لم تصرخ، لم تسقط. فقط جلست بجانب يسرى، تمدّ يدها إليها كما لو أنها ستحييها من جديد.
أمسكت بيدها الباردة، وضغطت عليها، كأنها تحاول أن تشعر بذلك الدفء الذي كان فيها قبل ساعات.
بصوتٍ متهدج، همست:
“كنتِ ستكبرين… كنتِ ستصبحين أجمل مما أنتِ عليه… لكنهم لم يعطوكِ الفرصة.”
ثم رفعت رأسها، نظرت إلى المدينة التي أحبتها يوما، ولكنها الآن تراها قاتلة، مدينة لا تحمي أبناءها.
شعرت بالنار تحترق في صدرها، بحرقةٍ لا يطفئها المطر. نهضت ببطء، عيناها لم تعدا تحملان الحزن فقط، بل شيئا آخر… شيئا أشد خطورة: الغضب.
لم تكن هذه أول مرة يبتلع فيها وادي شراعة طفلا، لكن هذه المرة، كان الألم أعمق.
أخبار الفاجعة انتشرت كالنار في هشيم الغضب الشعبي. خرج الناس إلى الشوارع، لم يعودوا قادرين على الصمت. تصاعدت الهتافات أمام مكاتب المسؤولين، أمام البلدية، أمام كل من كان يجب أن يمنع حدوث هذا، ولكن لم يفعل شيئا.
“إلى متى؟ كم من طفل يجب أن يموت قبل أن تتحركوا؟”
كان الغضب في العيون، في القبضات التي تُرفع في الهواء، في الشتائم التي أُطلقت على من ترك البنية التحتية مهملة، على من سمح لمدينةٍ أن تصبح مصيدة لأطفالها.
في قلب الحشد، وقفت الأم، بجانب جثة ابنتها، نظرت إلى الجموع، ثم إلى الكاميرات التي كانت تسجل كل شيء، وقالت بصوت مرتجف لكنه حاد:
“لن تدفنوا ابنتي وتمضون كما لو أن شيئا لم يكن… يسرى لن تُنسى، هذه المدينة ستسمع اسمها كل يوم، حتى تحاسبوا أنفسكم!”
ومن خلفها، وقف الجميع، صدى كلماتها يتردد في الأرجاء، أقوى من المطر، أقوى من الصمت، أقوى من الإهمال الذي قتل طفلة لم تكن تريد سوى أن ترى المطر… دون أن يأخذها بعيدا.
Discussion about this post