بجاية الناصرية
بقلم/ عمر بن زيان
بناها السلطان الناصر بن علناس في القرن الحادي عشر الميلادي، وحوّلها إلى منارة علمية، ونسبة إليه أخذت، أيضا، اسم “بجاية الناصرية”.
قصدها العلماء والطلبة من الأندلس وشمال أفريقيا وأوروبا، لما فيها من علوم كثيرة، ومن أبرز من زارها: العلامة عبد الرحمن بن خلدون ومحيي الدين بن عربي وسيدي بومدين شعيب وابن تومرت والشاعر بن حمديس الصقلي، والكثير من الرحالة، كالإدريسي وابن بطوطة، والعالم الرياضي الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي Leonardo Fibonacci، والفيلسوف الإسباني ريمو لول Rymond Lulle.
كتب عنها الرحالة الإدريسي في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، واصفا حالها في تلك الأيام “مدينة بجاية هي مدينة الغرب الأوسط وعين بلاد بني حماد، السفن إليها مقلعة وبها القوافل منحطّة والأمتعة إليها برا وبحرا مجلوبة.. مدينة بجاية قطب لكثير من البلدان”.
وقد تغنى الشاعر الحسن بن الفكون القسنطيني، بجمال مدينة بجاية قائلا:
دع العـراق وبغداد وشـــــــــامهما / فالناصرية مــــــا إن مثلــــــها بلد
بـر وبحر وموج للعيــــــــــون بـه / ســــارح بــــــان عنها الهم والنكد
حيث الهوى والهواء الطلق مجتمع / حيث الغنى والمنى والعيشة الرغد
يـــا طالبا وصفها إن كنت ذا نصف / قــل جنة الخلد فيــها الأهل الولـد
اشتهرت بجاية بقصورها الرائعة كقصر اللؤلؤة وقصر الكوكب وقصر أميمون، وجاء في كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار”، لكاتب مرّاكشي يصف قصورها “في بجاية موضع يعرف باللؤلؤة، وهو أنف من الجبل قد خرج في البحر متصل بالمدينة، فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة لم ير الراؤون أحسن منها بناء ولا أنزه موضعا.. والمجالس المقرّصة المبنية حيطانها بالرخام الأبيض من أعلاها إلى أسفلها، قد نقشت أحسن نقش وأُنزلت بالذهب واللازود.. فجاءت من أحسن القصور وأتمّها متنزّها وجمالا”.
ابن خلدون.. والعلماء
كان العلامة عبد الرحمن بن خلدون من بين أشهر من زاروا بجاية ومكثوا بها، بين 1352 و1365، فعمل مدرّسا لمادتي الفقه والرياضيات في جامع القصبة الشهير، وخطيبا أيضا، كما شغل منصبا سياسيا تمثل في حاجب لأمير بجاية أبي عبد الله الحفصي.
سيدي بومدين شعيب، وهو من كبار الصوفية بتلمسان، بعد عودته من المشرق أين التقى المتصوف الكبير عبد القادر الجيلاني، استقر أيضا بمدينة بجاية مدة خمس عشرة سنة، درّس فيها التربية الروحية الصوفية المؤسسة على القرآن والسنة.
وهام ابن خلدون بوصف أهمية بجاية العلمية، فكتب في مقدمته “استبحَرت في العمارة واتّسعت بالتمدن، ورحل إليها من الثغور القاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع.. وكانت فيها أسواق المعارف والحرف والصنائع”.
من العلماء أيضا ناصر الدين المشذالي، الذي عاد إليها بعد 20 سنة من الدراسة في المشرق، واختص في تدريس الفقه المالكي، كما تعايش في المدينة المسلمون والمسيحيون واليهود لأكثر من 4 قرون.
وذكر ابن خلدون أن العالِم المشذالي قد أحدث ثورة في إصلاح طرائق التدريس، معتمدا على الحوار والمناقشة والتعمق في البحث، وأيضا العالم أبو الفضل المشذالي الذي درّس الأدب والمنطق والفلسفة فيها.
المعاهد العلمية.. والأفول
جاء في كتاب “أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة”، للباحث الجزائري يحي بوعزيز “أنشأ الأمير الناصر بن علناس معهد سيدي التواتي ببجاية، الذي كان يحتوي 3 آلاف طالب، تُدرّس فيه جميع المواد المعروفة، بما فيها العلوم الفلكية والطبية، وتوافد عليها طلاب العلم والمعرفة من كل أصقاع العالم الإسلامي شرقه وغربه، من الأندلس إلى بلاد فارس، ومن بلاد أوروبا خاصة إيطاليا وفرنسا واليونان”.
من جهته يذكر المؤرخ الجزائر عبد الرحمان الجيلالي، في كتاب “تاريخ الجزائر العام”، أن بجاية “اشتهرت بصناعة الأدوية المستخلصة من النباتات.. كما اشتهر ابن النباش البجائي بالعلوم الفلسفية والطبيعة والحكمة والطب”.
تمثال رئيس البرتغال الراحل، مانويل تكسيرا ڨوميز، وسط مدينة بجاية
تمثال رئيس البرتغال الراحل، مانويل تكسيرا ڨوميز، وسط مدينة بجاية
احتفظت مدينة بجاية مكانتها العلمية في العهدين الموحدي والحفصي، ولعب فيها النازحون من مسلمي الأندلس دورا كبيرا في إنعاشها وترقيتها، إلى أن وقعت في قبضة القوات الإسبانية سنة 1510م، وكانت نكبة ألمّت بالمدينة، أدت إلى خروج الكثير من سكانها، واستقرارهم في الجبال، فتوقف دورها الريادي في المنطقة.
وتذكر كتب التاريخ، بأن الفرنسيين نهبوا من بجاية 12 سفينة مملوءة بالكتب والمخطوطات القيمة.
وكمثال على التعايش وذياع صيت هذه الحاضرة، ينتصب في مدينة بجاية تمثال لرئيس البرتغال الراحل “مانويل تكسيرا ڨوميز”، الذي توفي فيها العام 1941 بعد أن اختارها لقضاء منفاه بها مدة 10 سنوات، وكان التمثال هدية من الحكومة البرتغالية لبجاية.
عمر بن زيان
Discussion about this post