قراءة في كتاب: ” نوستالجيا الأمكنة ”
للأستاذ: عبد الرحمان أزرار.
بقلم: أمنة برواضي
ما الذي أوقد شعلة الحنين وجعل أستاذنا عبد الرحمان أزرار يأخذ القلم ويسطر لنا حلقات هذا الكتاب؟ وهل توقف الحنين بعدما تقاسمه مع قرائه؟ أم زادت شعلتُه تأججا، وكانت الكتابة كمن أزال الغبار عن الأحداث والأماكن تلك التي تراكمت لعقود من الزمن.
قد يظن البعض أن الكتاب مجرد سيرة ذاتية، أو ذكريات تخص الكاتب دون سواه. لكن الحقيقة أن فكرة الكتاب أعمق من ذلك.
الحلقات ست وعشرون غنية بالأحداث والأحاسيس والمشاعر المختلفة التي تفيض حبا للأماكن والأشخاص الذين كانوا إلى جواره في الماضي بدءا بأسرته، وأهله، وجيرانه، وعمال المنجم، والفقيه، وأساتذته، وزملائه في العمل… لكل واحد من هؤلاء، ولكل مكان من الأمكنة المتعددة التي مر منها حكايات تركت بصمتها عميقا عند أستاذنا عبد الرحمان أزرار.
حلقات الكتاب رغم عدم تسلسلها الزمني، حيث نجده يبدأ بالذاكرة المشتركة؛ سينما فيكتوريا ـ بلدية الناظور ـ النادي البحري ـ قهوة عالوش ـ وبعد ذلك يعرج بك إلى لعسارة أول المنازل، والتاريخ العائلي والأحداث الحاسمة في حياته مثل: لمسيد، مدرسة سيدي أحمد عبد السلام، ثانوية الشريف أمزيان…
لكنها تشدك إليها ولا تستطيع تركها، كل واحدة تدفعك بقوة إلى معرفة المزيد عما تخزنه ذاكرة الكاتب، وما تكنه من حب ووفاء لمكان عبر منه ذات يوم..
وأنت تقرأ “نوستاجيا الأماكن” أكيد سوف تعود بك ذاكرتُك إلى الأمكنة التي مررت منها على امتداد سنوات عمرك، لتجد نفسك مشدودا إليها بقوة العشق والحنين سائرا على خطى الكاتب.
ها هو الحنين إلى الأماكن مصدر إلهام للأستاذ، ليكتب لنا عملا يمكن أن يعتبر ذاكرة للمنطقة.
نوستالجيا مرسومة بألوان من المشاعر الطافحة بالحب للأماكن، والأشخاص الذين عرفهم وعاش إلى جوارهم. هو لا يقتصر على منطقته الناظور.
بل نجد مدينة سلا حاضرة بحكم عمله في بداية حياته العملية يستهلها بقوله: سلا سكنتها أمدا وسكنتني أبداً.. سلا بالشكل الذي كانت عليه يومها مرتبطة في ذاكرته بأبي رقراق، بحب الناس وبساطتهم، بالشوارع النظيفة.. ويختم بالقول:
تتوالى زياراتي لسلا، ولكن في كل مرة أجدها غير “سلوتي” القديمة.
وكذلك الدار البيضاء، هذه المدينة العملاقة مرتبطة في ذاكرته بالحنين إلى خاله، وجمالية المدينة، وطيبة أهلها…
وحين يذكر مدينة مليلية، يتذكر الطفولة، وزيارات شتنبر إلى الفيريا (الملاهي) رفقة عائلته، وفي فترة الشباب مع الأصدقاء، ومع أبنائه يكرر ما قام به الآباء لكن بحسرة إلى الحالة التي آلت إليها المدينة اليوم. طبعا فالحنين ظاهرة إنسانية وشعور متجدر في النفس البشرية إذ نَحِنُّ إلى كل شيء ترك فينا إحساسا جميلا…
عمد الكاتب إلى الاحتفاء بالأماكن كما كانت عليه في الماضي.
القارئ للكتاب يجده يتوغل في الماضي بفعل الذاكرة، ويحاول جاهدا النبش في تلك الذكريات البعيدة في الزمن، والمنسية بفعل تراكم الأحداث، ويجعلها تطفح إلى السطح، ويكتب عنها وكأنها شريط يمر من أمامه لم تمر عليه كل هذه السنوات مؤكدا بين الحين والآخر كما هو الحال معه في ص 58 حين يقول: لست كاتبا متهتكا ولم أدّع يوما أنني كاتب أصلا .. أنا إنسان ينتابه العشق والألم .. يباغتني الحنين المجنح على حين غرة فأسافر على متنه لا خريطة معي ولا دليل … زادي الخيال والسحر والجمال…
ويقول في ص 62 حين يحدثنا عن ضريح سيدي عري نربحار، لست مؤرخا ولا أنثروبولوجيا لأحدثكم عن المزارات والأضرحة … أنا بتواضع شديد ” نوستالجي ” أتنفس الحنين شهيقا وزفيرا.
لقد أسعفته ذاكرته حقا بالعودة إلى طفولته التي يراها رغم بساطتها مزدحمة بالمحبة والاهتمام. طبعا ولما لا؟ فهو كما يقول في حلقة لعسارة أول المنازل الصفحة 24 “كنت الحفيد البكر المذلل لأسرة تتكون بالإضافة إلى الوالدين من الجد والجدة، وعمين وعمة”. وهنا إشارة إلى الشكل الذي كانت عليه الأسر المغربية سابقا، وهذا ما افتقدناه في أيامنا هذه.
ويقول في ص 67 عن الحي العمالي حين يصفه بالجمال، ويصف الناس بالطيبة حيث عاش الجميع في وفاق وصفاء. فالكتابة النوستالجية انتقاء، وأحيانا تجميل لواقع لم يكن بكل ذلك البهاء ..
وفي ص 83 عن حديقة خارطين، حين ربط بين خارطين القلوب المعلقة وحدائق بابل المعلقة “عفوا وألف عفو، فالكتابة النوستالجية ليست ذكريات منقادة منسابة تروى على الملإ، ولكنها حالة عاطفية، حارقة، عاصفة، جارفة.. انفلات واختراق.. ”
الكاتب يسرد لنا بأسلوب شيق تاريخ العائلة والأحداث الحاسمة في حياته، عندما يعود إلى فترة الطفولة فهو اندفاع صوب الأصل والبراءة والبساطة مستدعيا شخصيات عاش إلى جوارها واحتمى بدفئها؛ الأسرة، العم أحمد عجور رسام أذرار وكسان الذي خص له الحلقة 15 وقال عنه: ” كان الفقيد مفردا بصيغة الجمع، تجمع فيه ما تفرق في غيره ( رسام، نحات، كهربائي، معماري، وهلم جر) والفقيه الذي تتلمذ على يديه ..”
الكاتب يأخذك معه في رحلته يعرفك عن قرب على الأماكن التي شغلها، وها هي اليوم تشغله، وتوقظ الحنين إليها بدءا بسينما فيكوريا، يستهلها بقولة للشاعر اللبناني زاهي وهبي:
مرة أقسمت أن أعتزل الشوق غدا // من يومها ما عاد يأتي الغد
ينهي حلقته ببيت لسان الدين ابن الخطيب في رثاء الأندلس:
جادك الغيث إذا الغيث هما // يا زمان الوصل ب(الناظور)
بلدية الناظور، يتحسر على ما حل بها من قص لجناحيها، مذكرا بقصة الخطاف حين كان الصغار يتوعدونه بقص جناحيه.
ويبدو أن زمان الوصل لم يكن إلا حلما
ويختم ببيتين لنفس الشاعر:
فأعيدوا عهد أنس قد مضى // تُعتقوا عبدكم من كربه
اتقوا الله وأحيوا مُغْرَما // يتلاشى نفسا في نفسي
قهوة عالوش، وذكريات الشباب، وعشقه لأغاني فريد الأطرش، يقول متحسرا على ما ولّى:
إن أعادوا إليك المقاهي القديمة // فمن يعيد لك الرفاق
محمود درويش
أزغنغان التي في خاطري ودمي:
يختمها:
” الحنين وجع لكنه وجع من نوع صحي؛ لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل أو عاطفيون ”
محمود درويش.
لعسارة أول المنازل، يستهلها بقول الشاعر أبو تمام:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى // وحنينه أبدا لأول منزل
هنا يسكنك الشوق إلى أول منزل ترعرعت بين جنباته، ويعيدك بقوة إلى الطفولة، إلى حضن الأسرة، إلى البراءة، إلى دفء الأهل.. فتتحسر بدورك، وقد تذرف دموعا على ما حل بالبيت، وعلى من رحل من الأهل…
فعلا لقد برع الكاتب في تصوير مشاعر الحنين، والأجمل كيفية استهلاله للحلقات والتي اختار لها أبياتا شعرية بليغة وحدها تفي بالغرض، وتلخص محتوى الحلقة أو افتتاحية لها، وتلك القفلة التي يختم بها عادة حلقاته، بالإضافة إلى صورة للمكان كما كان عليه سابقا، أو صورة لشخص من الأشخاص الذين عايشهم وبصموا مسيرته.
لقد عزز الكاتب نوستلجيا الأماكن، بلغة سلسة جميلة، وأشعار منتقاة، وأقوال لفلاسفة وأدباء.. كما أبدع عبارات تصدح شوقا وحنينا للأماكن مصورا في ألم ما حل بها اليوم.
حلقات الكتاب تزخر جميعها بالذكريات الجميلة مثل؛ الأعراس، وأيام الدراسة، والرفاق، وسنوات العمل الأولى و…
والموجعة أيضا؛ فقد والدته، ووالده، وخاله، والعديد من الأصدقاء، وفنان ” أذرار وكسان” العم أحمد عجور.
وأنت تقرأ نوستالجيا الأمكنة، يقف أمامك أستاذ الفلسفة شامخا، مستدلا بمقولات لفلاسفة… غير أن الأسلوب يحيلك على أديب متمرس في السرد، يعرف كيف يجرك في متاهة السرد والتشويق للأحداث. كما يمر إليك ذاك الإحساس الذي انتاب الكاتب لهذه الحلقات؛ الحزن والحنين إلى ماض رحل ولن يعود، وسعادة أيضا في تقليب صفحات الماضي الذي يزخر بكل ما هو جميل من تواجد الأهل والخلان، من اجتهاد ومثابرة، من نجاحات، من حب، من عائلة، من أصدقاء كانوا يحيطون بك من كل جانب، من أماكن تشعر بالدفء بين جدرانها وفي ساحاتها، من عشق لكل الأشياء رغم بساطتها…
هل حقا كانت الحياة جميلة يومها؟ أم هو الحنين إلى الماضي الذي ولّى؟ أم هو الشعور بالأمان الذي يغمرنا حين نلجأ إلى أحضان الماضي؟
أم الحنين إلى من سكن الديار ومن رافقوه في ذاك الزمن؟ وهنا يحضرني قول الشاعر قيس الملوح:
ليس حب الديار شغفن قلبي// لكن حب من سكن الديار
في حلقة غرناطة التي لم تسقط يستهلها بقوله:
لست معنيا ولا مكترثا لبكائيات الشعراء بدءا بأبي البقاء الرندي
هو يقول عنها:
“غرناطتي الغجرية، جميلة لم أرتو بعد من حبها رغم زياراتي المتكررة لها… ”
يتغنى بجمالها وحبها إلى أن يتساءل في ص 113 فهل في هذا المكان سرقت منا غرناطة ؟ .. أم “هي الأمور كما شاهدتها دول”؟ … هي الأمور كما شاهدتها دول .. الظروف تتغير مكانيا وزمانيا، والتحول والتطور سمة الوجود… والماء من حولك دائم الجريان أصَّل لذلك نظريا الفيلسوف اليوناني هرقلتيس، في حين أن القوم الذين أريد لنا أن ننتسب إليهم قهرا وقسرا يؤمنون بالثبات أو السكون واللازمان، والمقولات الجوفاء الفارغة ” ليس في الإمكان أبدع مما كان ” وما لما حل بالأندلس سلوان ينتحبون ويجهشون بالبكاء الكاذب.
يمكن اعتبار هذا نتيجة ما وصل إليه الكاتب، وخلاصة لما حل بالأماكن، كون التغيير والتحول والتطور سمة الوجود.
Discussion about this post