بقلم الأديبة : نبوغ محمد أسعد .
لم يكن التعب الذي يحاصرني أقل ضراوة من تلك الظروف التي تحيطني من كل جانب ، وتسيج قلبي بأسلاك من وهن . حملت أكياس خضاري الثقيلة ومشيت مسافة طويلة بين الحواري، ومع كل خطوة يزداد ألم التهاب الكليتين المزمن ، الذي يشتد بين الحين والآخر حتى وصلت باب المبنى ، والعرق يتصبب من جسدي المرتعش ،جراء نوبات الألم التي تمزق خاصرتي سألني أحد الجيران، وقد بدا واضحا عليي التعب، مابك ياأم مروان يبدو عليك المرض والتعب ،هات عنك هذه الأكياس، وأوصلها لباب منزلي ثم قال : أين اولادك ماشاء الله إنهم كثر، قلت لعلهم نيام قال مستغربا : ألهذا الوقت من الظهيرة ينامون شعرت بالإحراج والخيبة وتمالكت نفسي أمامه فوضع الأكياس وقفل راجعا بعد أن شكرته. راحت دموعي تنساب بعفوية ،وحده البكاء يخفف عني حمولة نفسي المثقلة بأعباء الدنيا ويغسل قلبي من هم السنين . آه يا حسرتي ما أشد تعاستي بأولادي الذين أفنيت عمري وشبابي في تربيتهم وها أنذا أتجاوز الخمسين من عمري ولم أر منهم واحدا يقف إلى جانبي ليكون سندا لي في كبري ،حاولت أن أصنع منهم رجالا يعتمد عليهم في زحمة الحياة التي نسيت فيها أنني أنثى من لحم ودم ومشاعر، ولها حق على نفسها التي هدرت تحت أقدام الأولاد. استيقظ ولدي الأوسط رعد على قرع جرس الباب وكعادته راح يرغي ويزبد وأنا في أتعس حالاتي وازداد في كلامه اللاذع عندما علم بأنني لم أجلب له بعضا من الشاي ،فقلت له: إنني متعبة فلتذهب أنت وتشتريها ،فصرخ في وجهي موبخا إياي قائلا : لم تنجبون أولادا إذا كنتم غير قادرين على القيام بواجباتكم نحوهم ،أم إنكم تتناسون في ساعات الصفا أنه سيكون هناك أولاد ومسؤوليات . صرخت بوجهه لشدة وقاحته وقلة أدبه ورفعت يدي كي أصفعه فأمسكها بقوة ودفعني إلى الخلف وكاد يضربني لولا أنني وقعت أرضا بكيت وبكى قلبي ألما وهو غاضب عليه . إن ماخلفته هذه الأزمة من تهجير وتشريد وضياع فكري وتشتت جعلنا نخاف عليهم وننصاع لطلباتهم مهما كانت صعبة حتى ازدادوا بنا طمعا خاصة عندما دخل الإنترنت إلى حياتهم بهذا التدفق المشوه لكل أفكارهم وبث النزاعات والخلافات الدينية والأخلاقية وزرع الفتن ونشر الأفلام الإباحية والفضائح التي صارت من ضروريات شبابنا على ملفات جوالاتهم ،كل هذه الأشياء التي سببت في ضياع الأجيال وجعلهم يرمون وراء ظهورهم المبادئ والقيم و أهمها احترام الأبوين . مضى النهار ثقيل الخطى ليسلم لليل . أجنحة ثقال وأنا لازلت أبكي لتحطمي أمام ذاتي ولخذلاني بأولادي حتى كدت أنسى ألم خاصرتيي ،ما أسهل الوجع الجسدي أمام عظمة الوجع النفسي الذي لا يستطيع المرء أن يبوح به وخاصة إذا كان مصدره من بيئته وأولاده ،وأصعب شعور يراود المرء بأن حياته انقضت أمام من لايقدر هدرها عاد زوجي من عمله في وقت متأخر وكان يعاني نفس معاناتي ،فكم من الشباب والشابات ضيعتهم المغريات فجربوا كل ما كان ممنوعا فكثر الإدمان بالمخدرات والحبوب وكثر الإجرام وحوادث الإنتحار لأسباب لا تعد ولا تحصى منها الدعارة والفقر والعوذ وقصص المراهقين التي راحوا يقلدون بها مايشاهدونه على الإنترنت . سألني: يبدو أنك اصطدمت مع أحدهم فقلت : بل أنا متعبة وحاولت أن أخفي آلامي التي تشبه آلامه ، أصارع ذاتي والقلب يبكي آلاما لا يشفيها طبيب . بدأ الليل زحفه نحو غرفتي الصغيرة ليكللها بظلامه الدامس فرحت أمدد جسدي المتعب مابين الفراش والوسادة لعل ألمي يستكين ، آه أين أنت أيها النعاس ،أشتهي نوما عميقا وليته يطول ولا أستيقظ بعده . لم يعد للحياة طعم إذا كانت فقط للذل والإهانة . الفقر يحاصرنا من جهة فلا نستطيع أن نسد حاجات المنزل بسبب الحظر الإقتصادي الذي وحده يدق باب الفقراء، والقهر من جهة أخرى يجعلنا صاغرين أمام إذلال مرتزقة هذا الوطن وتجارها اللذين امتصوا آخر قطرات شرايينه فحولوا الناس إلى وحوش بشرية تأكل بعضها بعضا نظرت إلى زوجي بدأ يستسلم للنوم من شدة التعب والإرهاق فهو رجل مكافح لكنه كباقي أبناء الوطن الشرفاء مهضومي الحقوق وخاصة حق الإنسانية. عدت أناجي النعاس عله يدق باب فكري المتوقد بنار العذاب ورحت أتقلب يمينا وشمالا ،شعرت بثقل فوق أجفاني المثخنة من كثرة البكاء وعقلي الباطني يردد بعض الدعاء والرجاء لله عله يصلح لي حال أبنائي ، ويكون مع هذا الوطن الذي لا يستحق الخيانة والطعان . وسرى النوم وئيد الخطى إلى مقلتيي بعد أن تكللت غرفتي بسواد قاتم شعرت بيد تطبق على صدري فحاولت النهوض فلم أستطع ثم عاودت النهوض مرة أخرى فخانتني قواي وشعرت بيد كبيرة تقبض على معصم يدي اليسرى . لم أدر كيف تسلل هذا المخلوق العجيب إلى غرفتي المطلة على الشارعكان أشبه ببطانية كالتي سلمونا إياها من مراكز المعونات التي يشرف عليها المرتزقة سارقوا لقمة الفقراء والتي تقاسموها على دمائهم
راح يطير حول جسدي بتثاقل ويشدني من يدي بقوة عجيبة، كي يخرجني من الغرفة إلى الشرفة وأنا أقاومه بكل ما أوتيت من قوة، ويتعالى صراخي كلما شدني أكثر باتجاه الشرفة محاولا أن يرفعني فوق سورها الحديدي .
ناديت على أولادي فلم يستجب أحدهم لندائي وهم يضحكون ويتسامرون حتى ساعات الصباح الأولى منشغلين بالجولات وماخلفته من دمار لكل جيل الشباب صرخت متوسلة إليه أن يتركني لكنه بقي متشبثا بيدي ثم شعرت بيد أخرى تمسح على ظهري وصوت يردد لا تخافي يا أمي سوف تكونين بخير،إنه أصغر اولادي وأحبهم إلي ،مازال يمتلك بعض القيم والشهامة، وزوجي أمامي يردد المعوذات وآية الكرسي كان المخلوق الشبيه بالبطانية السوداء قد ترك يدي وراح يرفرف بعيدا عن منزلنا ليختفي في كبد السماء
بدأت أستعيد وعيي فوجدت نفسي على الشرفة لا أعرف كيف وصلت إليها وراحت عيناي تجوبان بين النجوم تبحث عن مخلوق كاد يأخذني معه قبل دقائق .
Discussion about this post