يبدأ العدّ التّنازلي حالما يلقي بجسده على مقعد في الحافلة
يحدّق في ساعة المحطة الخرساء ثم إلى ساعته اليدويّة…لحظات وتنطلق …لحظات ويكون حيث يحب أن يكون … ويسمع نداء من الأعماق
إذا ما انطلقت الحافلة الآن ..غادر واركب تاكسي لتكون في الموعد
إنها في الانتظار …لا تتأخّر …
وفي خضّم هذا الحوار تنطق الحافلة
يحسّ بطول المسافة وتمطًطها رغــم قصرها…ويكون أول من يغادر الحافلة نزولا…
والكل يفسح له الطريق مهما كانت مكتظة…
حالما يتحرر من ضيق ممر الحافلة يفتح الهاتف ويتصل بها
يضحك وتتناثر ذبذبات السعادة
لتصلها عبر الأثير تعدّل في جلستها
على الفراش ،ويأتيها صوته
مساء الخير (سي العزري)هكذا يحلو له تسميتها
تنتقل لها عدوى ضحكته فتقهق عاليا
وترد :أهلا حبي العظيم
أروع ما يوحِّـد بينهما في أمسيات
الاتصالات الهاتفية هي تلك النكت التي يرويها لها أو ترويها له حسب اتفاق مسبق على من يفتح هذا الباب… باب السقوط في (الطفولة) غير عابئين
بما تحمل الأكتاف من أوزار سنين العمر…ويقطع المسافلة الفاصلة بين المحطة ومنزله متحدثا اليها بـبراءة وعفويـة طفل في حضـن أمّـه …يعود طفلا معها فتتعرّى أفكاره ونواياه …يحكي لها تفاصيل يومه بدقة فترى نفسها تتنقّـل معه حيث كان وحيث مرّ…يتحدث عن وجبة الغداء قائلا:
تناولت طعاما متوازنا وصحيا حسب تعليماتك(سي العزري)
ويتحدّث عن عدد فناجين القهوة التي احتسى نصفها وترك الباقي في قاع الفناجين المتناثرة هنا وهناك على المكتب الفخم …كم تروقها فوضاه المرتّبة!
يتحدث عن عدد السجائر التي دخنها
وكيف نسي أن يتزوّد بعلبة وهو متجه إلى مكتبه صباحا واضطر لنزول درج الطوابق الثلاثة لاقتناء علبتين حتى لا يرتكب نفس الخطأ … وتعلم انه سينسى غدا ويتكرر معه نفس السيناريو…
تعرف طقوسه أكثر مما يعرف هو نفسه…ولما تبدأ المسافة في التّقـلـص يتوقف ،ولا تعود تسمع وقع خطواته على إسفلت ممرّ البطحـاء التي يجتازها لبلوغ منزله…وقتها
تسمع صوت قدح الولاعة إنه يشعل سيجارة يسحب منها نفسا عميقا
وينفث الدّخان فتكاد تشم رائحة سيجارتـه وترى تعرّجات انفاسه متشبّثة بضباب الدّخان الهارب في الهواء لا يلوي على شيء..
يسألها كيف قضت يومها،فتسرد عليه
أهم الأحداث حسب أهميّتها ،يصغي بانتباه شديد،ويطلب أن تسمعه آخر ما كتبت فتمتثّل ويفعل بالمثل…
هي لا تراه هي تحسّ به يبتسم ويرسل لها صورة للمرأة الّتي تراقبه من النّافذة المطلّة على (البطحه)
لا هي تسأله من هي هذه المرأة؟
ولا هو يذكر من تكون ولا لماذا تراقبه؟ تواطـؤ عجيب بينهما،تقرأ صمته وبدوره ينفذ لأعماق صمتها…
فكلّ الرّسائل التي تبدو مشفّرة في الحقيقة هي واضحة وجلية في ذهنيهما معا …يواصل سيره يبلغ باب البيت يعالج القفل ليفتحه تفهم هي ان اللّقاء أشرف على النّهاية
وعلى عبارة تصبح على خير
وأنت من أهل الخير ينتهي اللّقاء الشّفوي
وتصلها منه رسالة قصيرة
أحبّك جدا ..ههههه …سبقتك كالعادة
وترد احبك جدا وجدا أحبك
ولن أحرمك من لذة سبق التّعبير عن حبّك ولذّة هذا الإنتصار هههههه …
هي تعلم يقينا انه بعد محادثتهما
سيكون مع المرأة اللغز التي تترصده من الشباك والتي قد تكون تنتظر عودته كما تنتظر هي مكالمته إذا دقت الساعة الحادية عشر ليلا…
هي على يقين أن تلك المرأة تسعى بين يديه، وقد تكون بين أحضانه ليلتها …وهي على يقين أنها بدورها حاضرة وبقوة في فكره وفي مسّـامه…
تتقوقع على نفسها ، تمد يدها تداعب وسادته الخالية عن يمينها
تشمّ عطره وقد تسمع انفاسه ولهاثه ونبضاته المنتظمة ،وتتبلّل أطراف أصابها بعرقه المبثوث…
تستعيد شريط آخر زيارته لها والنوم عندها وبين أحضانها…فبعد الإنصهار
ورحلة اتحاد الجسدين في إيقاع مفترس يرتوي كلاهما ويشعران بلذة
هذا الحج الشبقي تبدأ مرحلة استرخاء كل الجسد والشعور بالانتشاء وتهزهما نشوة خارقة متكررة
ينام وهو يدس رأسه بين نهديها فتحترق بحرارة أنفاسه المثيرة التي ترضي الأنثى فيها …
ولكن الأروع هو سحر هذا الزواج الفكري حيث أثناء كل نقاش يبديان
نفس الفكرة كل باسلوبه أو ينطقان معا وفي نفس اللحظة نفس الكلام
لدرجة أنهما اعتمدا طريقة الكتابة اي كل يكتب رأيه فما تغيّر أي شيء بل ازداد تشابه استعمال الألفاظ في التعبير ،فباتت تدعوه(رجلي الفكرة)
فاجأها ذات حديث بينهما وفي لحظة
ارتقاء وتعانق روحيهما بقوله :ماذا لو مع تقدم العمر بت عاجزا عن(…..)
فكان جوابها آنياً وبسيطا جدا (أنا ما عرفتك جسدا عاريا يسعى لإشباع غزائزه،أنا عرفتك روحا طاهرة نقية وفكرا نيّرا) والطهر والنقاء يزدادان نضجا وجاذبية مع تقدم السن،ولا خوف على حبنا من العوامل الخارجية ،ونحن ناضجان بما فيه الكفاية وبما يضمن استمرارية علاقتنا التي ولدت معقلنة…
كلاهما يعلم أن ما يجمعهما أسمى من حمى جسدين…ما يجمعها
هو جسر ممدود منذ الأزل ويمهد لعبور كل منها للآخر … هو عبره في الوقت الذي ألحّت عليه حاجته لاحتوائها …وهي احتضنته لحظة حاجتها لدفء فيض مشاعره …
هو يحبها إلى الحد الذي لا حد له
فهي الجندي الوحيد بجيشه وقد تكون كمادات لخدوش خيبات وخذلان …وهي تحبه كما هو ، وبلا انقطاع وقد يكون مرفأ أمانها الذي قضى مركب قلبها عمرا يبحث عنه…
وكلاهما يعلم أن الحبّ لا يتأخّر ولكنه يأتي في الوقت المناسب….
فائزه بنمسعود
14/8/2024
Discussion about this post