ليسوا فقراء إلى هذا الحدّ! ورغم ذلك تركوها دون شاهدة تُثبّت عليها الأغصان! كأنّها عاشت بلا اسم، بلا وجه، كأنّهم ينكرون وجودها! لكن مَن غرس تلك العلبة المعدنيّة في الطّين الهشّ لتُوضع فيها زهور لم يجرؤ أحد على إحضارها؟ مَن؟
في صباح العيد، زُيّنت المقبرة بحزم الآس وزهر الغريب. حمل البعض زنابق بيضاء وحمراء، تفتّحت باكرًا هذا العام. وبعد زيارة الموتى، خرج الأحياء إلى الحلوى والطّعام، تاركين وراءهم أشباح الحزن الجاف.
راقب الموتى المشهد من خلف ستائرهم الشّفافة، متأمّلين غيرة الأحياء من راحة الموتى الّذين تركوا هموم الحياة وراءهم. وتساءلوا، لو استطاعوا الكلام، عمّا إذا كان الأحياء يدركون معنى رغبتهم بعودة من رحل.
لكنّها، زهرة، لم تعتد طقوس الموت بعد. الليل أحاط بها، فانصرفت إلى ذكرياتها…
المساء…
كان الموعد الأحبّ إلى قلبها. بعد حرّ النّهار، كانت تغرف الماء من البركة وتسكبه على الأحجار، تستنشق الهواء الرّطب وتغسل روحها. تدور حول النّافورة، تغنّي بصوت خافت، متناسيةً همومها.
لكن تلك الذّكريات لم تسعفها يوم اقترب منها شاب غريب في مملكة الصّمت. “اغفري لي!” قال، وصوته مثقل بالنّدم. لكنّها لم تستطع الإجابة. تساءلت: كيف وصل إلى هنا؟ ولماذا يرتدي رداء الموتى الأبيض؟
تذكّرت أخاها…
كان يومها يحملها على كتفيه، يشتري لها الحلويات ويدوّن اسمها على دفاتر المدرسة. لكنّ الحياة جعلته يفقد صوابه، جعله الغضب والغيرة قاتلًا.
ذلك الشّاب كان سبب المأساة، حين كتب اسمها وزيّن سيّارته بالأزهار الّتي كانت تعشقها. لم يدرك أن ذلك التّصرف البسيط سيشعل نيران الغضب في قلب أخيها.
“أنت السبب!” قالت له، وهي تمسك رقبتها المذبوحة بيدها الشّفافة.
“كتبت اسمي… وزينت سيّارتك بالزّهور… هل كنت تعلم أن ذلك سيقتلني؟”
صمت الشّاب، واغرورقت عيناه بالدّموع. اعترف بصوت خافت: “يوم دفنك… كنت أنا من غرس تلك العلبة المعدنية. لم أجد شاهدة حجرية، فاكتفيت بذلك…”
استدارت عنه، دموعها تمزج الغضب بالخذلان.
“كفى… كفى…”
ثم مضت وحيدة، تاركة خلفها آثار خطواتها الخفيفة في مملكة الصّمت، حيث لا شيء يتغيّر… سوى الذّكريات الّتي لا تموت.
النّهاية
أيمن دراوشة – الأردن
Discussion about this post