#قصتي
” أنا وأمي ”
أمي، تلك المرأة العظيمة التي نسجت من البساطة عالما مليئا بالعطاء، وجعلت من القليل حياة تزهو بالكفاح والصبر. كانت مختلفة عن كل من عرفتهم، متفردة لا تُشبه إلا نفسها، كأنها نجمٌ يهتدي به السائرون في ليال بلا قمر. حياتها كانت مزيجا من الصمود والجمال، تُدير بيتنا الصغير وكأنها قبطانٌ يقود سفينة وسط أمواج لا تهدأ.
أما أنا، فكنت ذلك الطفل الذي لم يعرف عالما خارج حدود الكرة التي يركض خلفها بشغف. كرة القدم كانت لي وطنا، وأحلامها مساحتي التي أعيش فيها بعيداً عن صرامة الدروس وضغوط المدرسة. لم أكن أكترث بما يجري حولي، ولم أرَ أهمية تُذكر لما كانت الحياة تحاول أن تلقنه لي عبر نصائح أمي.
كانت تراني بعينين تجمعان بين الحب والقلق، تُدرك أن نجاحي في المدرسة وحده لا يكفي لأواجه ما تخبئه الحياة من اختبارات صعبة. حديثها كان يرافقني كظلٍّ أينما ذهبت، ونصائحها تسكن أذني كأنها دعاء تخاف أن يتوقف. وفي صيفيات طفولتي، كانت تُلحّ أن أذهب إلى الكتّاب لحفظ القرآن، وكأنها كانت تبني في داخلي أساسا متينا لبيت لن تهزه عواصف الزمان. لم أفهم آنذاك لماذا كانت تُصر، لكنني أدركت لاحقا حكمتها التي أضاءت حياتي.
والدي كان بعيدا عنا، يعمل في الخارج ليؤمن لقمة العيش. حضوره في حياتنا أشبه بفصول العام، يزورنا في الصيف ثم يغيب من جديد. أمي كانت هي القلب النابض الذي تحمل عبء الأسرة وحدها. بمهارةٍ لا تُصدق، كانت تُدير مصروف البيت كأنها تُبدع في معركة يومية لا تنتهي. رغم قلة الموارد، كانت تُصنع من البسيط ما يكفي، وتجعلنا نشعر بالثراء ونحن نفتقر.
أتذكر يوما حلمت فيه ببدلة رياضية رأيتها كأجمل ما قد يمتلكه طفل. طلبتُها بإلحاح لا يتوقف، حتى بكيت أسابيع محاولاً إقناعها. وفي النهاية، لبت طلبي بعد أن أرهقها عنادي، لكنني لم أدرك حينها أنها ربما استغنت عن شيءٍ تحتاجه لتحقق لي أمنيتي الصغيرة.
كانت تهتم بدفتري المدرسي كما لو كان كنزا ثمينا. تقلب صفحاته بحرص كأنها معلّمٌ يبحث عن الخطأ لتصويبه. عندما كنت أستظهر عليها ما حفظت، لم تكن تقبل بالتعثر أو النسيان، تُصر أن أعيد المحاولة حتى أحسن الأداء. لم يكن ذلك حبا في الصرامة، بل حرصا منها أن أكون الأفضل، أن أكون مهيأً لمواجهة الحياة بما تستحقه.
أمي، تلك المرأة التي لم تتعلم الحروف يوما، كانت مع ذلك أعظم معلم في حياتي. منحتني درسا في العطاء الذي لا ينتظر مقابلا، في الحب الذي يُغدق بلا شروط، وفي القوة التي تجعلنا نواجه الحياة بصلابة القلوب.
حين رحلت، تركت فراغا واسعا في عالمي، وذكريات تعيش معي في كل لحظة. أشعر بيدها تُربت على كتفي حين أخطئ، أسمع صوتها يناديني حين أتوه في زحمة الأيام. كانت أما بحجم الحياة، وها أنا أستودعها في رحمة الله، مطمئنا أن أمانتي الغالية بين يدي الرحمن الذي لا يضيع عنده شيء.
Discussion about this post