لم يكن هناك سوى خُطواتي وأنينها وهذه الأمواج الّتي يبدو أنّها لم تعد ترحّب بي كالعادة .
كان هناك زوجان من القطط الجائعة الّتي مازالت تظنّ أنّ الصّيف لم يلملم طيفه ويذهب وكانت تأمُل أن يدوم بقاء بعض من روّاد الكرنيش لأنّهم يتركون بقايا “البيتزا والهمبورغ”. أزمة الجوع عند القطط المتشرّدة تقلقني كثيرا في هذا البلد الّذي لا تعرف”كوعو من بوعو .”يبدو أنّني متأثّرة بدفاتر الجيلاني حيث يكرّر السّارد هذا المثل في روايته، يستعمل السّارد الكثير من الأمثلة ،علما أنّ الأمثلة تضفي على النّص جماليّة وفي نفس الوقت تضع الإصبع على موضع الوجع .
على ذكر تأثّري بما أقرأ، قال لي أحد الأدباء، وربّما هو من أبرزهم في تونس :”أريد أن أرى أثر ما تقرئينه في كتاباتك ”
وقتها كنت مخدّرة بكتب الأديب العالمي “زافون” .وأقرّ أنّني أشعر بالأسف، ذلك لانّني لا استقرّ في عمل أدبيّ واحد ،بل أمرّ إلى الثّاني دون إتمام الأول .كنت كالطّائر الجريح أكتب عندما تطول المسافة ويشتدّ الوجعُ .فأنا لا أكتب تحت الطّلب وإنَما تحت وطأة الإنفعال والاحساس . فإليكم ما حدث هذا الصّباح مثلا ….
ركنت السّيارة في المكان المعهود ،ونظرت الى البحر كانت هناك رسائل مشفّرة بيننا لا يقرؤها سواه .يعلم أنّ هوس الكتابة يرقص أمامي وأتمنّى لو أخاطب جدّتي من جديد في كتاب الاشقياء ( اشقياء دوارالشط)
ويعرف البحر أيضا أنّني أحيانا أشتهي أن أغطس في الماء وأنثر كلّ الوزر هناك، ربّما أرجع إلى اليابسة طفلة لم تَلجمها صروف الدّهر .
توجهت إلى السّيارة فسألتي امرأة
“هل المكان آمن ؟”
إبتسمت لها وقلت:” ليس هناك أكثر أمانا من هذا المكان ”
بدا لي أنّنى أعرف المرأة ذات الوجه المشرق
قالت لي: ألست الشاعرة “….
قلت نعم رغم أنّني لا أريد ان أصف نفسي لا بشاعرة ولا بسارده
قالت أنا فلانة الفلانية
تعانقنا وأضافت : “هناك مهرجان بيت الشّعر في بيت الحكمة “؟
لندخل سوّيا.
قلت أنا غير مدعوّة ولكن قررت أن أدخل…
يأتي الشّعر والشّعراء من القيروان وأنا لا أعلم بفظاعة الامر .
قرأت على اللّافتة في مدخل قاعة بيت الحكمه ،”قصر سيدي لمين باي السابق”، آخر بيات تونس.علمًا أنّني أحبّ المكان لجماله وموروثه الثّقافي .بيت الحكمة هو القصر الحسيني الّذي تداعبه نظراتي كلّ صباح وأنا اسبح في البحر والّذي يشكّل أيضا مكان انطلاق لنشاطنا الرّياضي.
لأوّل مرّة أحسست بخيانة المكان. غريب أن تدعى لتظاهرة ثقافيه يشرف عليها المركز الثّقافي الإيطالي ولا تٌدعى لتظاهرة شعر قيروانيّه ،
نظرت من جديد وعرفت أنّ بيت الشّعر القيرواني ينظّم تظاهرة لمدّة ثلاثة أيام.
كان لكلمة القيروان قوّة خارقة جعلتني أدلف الى القاعة بكلّ حبور كنت أظنّ أنّني سألاقي التّرحاب ، في الحقيقة لم أعرف الشّاعرات وكان الوقت منتصف النّهار والحافلة تنتظر لتحمل الوفد إلى الغذاء.
بادر الرّجال بقول صباح الخير وعرفت من لكنتهم أنّهم من بلدان شقيقة.
رأيت بعضا من شعراء الوسط والسًاحل ولم أتبادل معهم التّحيّة، انتفت الأناقة والجمال في هذا المكان الجميل …
ضاعت منّي الشّاعرة الّتي طلبت منّي الدّخول وكأنّها ندمت على دعوتها لي ،ولكنّني أعرفها نقيّة كنقاء محيّاها وربّما الأمر يتجاوزها … فوجدتني لوحدي أحاول أن أتأمّل الوجوه علّني أعرف نفرا . في الحقيقية كان الوقت زمن فطور وقد انتهت الجلسة الصّباحية.
أخذت مقعدا ورحت أجوب بناظريّ في النّسوة اللواتي يتسابقن على المنصّة لأخذ الصّور وبأياديهن ّباقات الورود.
كنت أبحث عن نظرات التّرحاب بين العيون ولكن دون جدوى. حاولت التّواصل و مكثت هكذا نكرة…
آه يا قيروان الحفاوة والتّرحاب أين أنت؟
آه خالتي عيشوشة،خالة هاجر زميلتي الّتي تستقبلنا كلّ يوم جمعة ونحن في الطّريق إلى تونس ،لم انس ابدا رائحة “كسكسيها”. كان عم الهذيلي رحمه الله يحضر اللحم وخالتي عيشوشة تطبخ الغذاء .ليفوح في كامل القرقبية… كان عم الهذيلي يحرص على إكرامي…هذه البنت القرطاجيّة الّتي ترافق ابنة اخت زوجته بكلّ تلقائية وشغف .تدخل وفي يديها بعض الحلوى للطفل الصّغير في المنزل العائلي بالقرقبية. عم الهذيلي يحتفي بهذه الغريبة عن القيروان الّتي تحبّ كوشة بوفندار وحومة الشّرفة وتحمل القيروان بين الضّلوع .
لم يكن من هذه القيروان رائحة هذا الصّباح في بيت الحكمة، تعقّبت بعض الوجوه الّتي لا تغيب عن الملتقيات المدعومة. نفس الوجوه تتنقّل من مهرجان مدعوم إلى آخر….
وكان في هذا البلد شاعر دون شاعر ….
آه يا قيروان عم محمد مزهود وندائه: سحرولي سهام… في أيام رمضان تسعينات القرن الماضي ….
لولا ذكريات الألق تلك لما دخلت..
رجعت إلى السّيارة اخذت كتابين من المرافئ اهديت واحدًا إلى مواطن فلسطيني لا أعرفه وآخر إلى السّيّدة مديرة بيت الشّعر …كنت أحبّ أن أردّ ولو النذر القليل لقيروان الزّمن الفارط.
كنت أحبّ أن أحتفي بقيروان الخير الّتي عرفتها في الماضي والّتي لم أر منها شيئا في بيت الحكمة…
سهام مصطفى الشريف (على هامش ملتقى بيت الشعر )
Discussion about this post