حدود الذاكرة المفقودة
بقلم الكاتب/ أيمن دراوشة
التصنيف/ (Fantasy and Surrealism)
تتميز القصة بخصائص تجمع بين العوالم الخيالية المبنية على الرمزية والخيال العلمي مع لمسات من الفلسفة الوجودية.
________________________________________
الفصل الأول: وصول الغريب إلى المدينة الفارغة
في يوم ضبابي عابر، وصل الغريب بطل الحكاية، ويدعى “عثمان”، إلى المدينة الفارغة. لم تكن هناك لافتات أو إشارات، فقط شوارع طويلة وأزقة ضيقة تتشابك كخيوط العنكبوت. كانت الأشجار على جوانب الطريق لا تثمر إلا بذورًا صغيرة، والأشخاص الذين صادفهم كانوا يبدون وكأنهم يجرون في حركة دائرية، لا يتوقفون أبدًا، عالقون في حلقة مفرغة.
“مدينة بلا ذكريات”، قال عثمان لنفسه، وهو يتأمل في الأفق الباهت.
كان يحمل ذكرياته الوحيدة في قلبه، تلك اللحظات التي لا تفارقه، لكن كان هناك شيء غريب يراوده: ذكرياته ليست كلها واضحة، بعضها مشوش، وبعضها محجوب. كان يبحث عن طريق لاسترجاع كل ما ضاع منه، ولم يكن يعلم أن هذه المدينة هي المفتاح.
بينما كان يمشي في الشوارع، التقى “رجلًا بلا وجه”، يلبس زيًا مهلهلًا، وكأنه لا يملك شيئًا سوى ظله:
“أنت هنا لتبحث عن الذاكرة، أليس كذلك؟” قال الرجل بصوت خافت، بينما كانت خطواته تتلاشى في الفراغ.
“كيف عرفت؟” تساءل عثمان، لكنه شعر بشيء غريب: الرجل لم يكن يبدو وكأنه قد فهم السؤال. فبدلًا من الإجابة، قال:
“في هذه المدينة، هناك طريق واحد فقط لتسترجع ما ضاع، ولكن عليك أن تخاطر. تخسر شيئًا لتستعيد شيئًا آخر.”
عثمان، الذي كان يعتقد أن مهمته ستكون بسيطة، شعر بالقلق لأول مرة. لكن ما الذي يخسره في مدينة لا يعرف فيها أحدًا؟ ما الذي سيخسره إذا كان يبحث فقط عن نفسه؟
________________________________________
الفصل الثاني: الأوعية الزهرية
بعد ذلك، دخل ريان إلى ساحة الزهور. كانت الساحة مركز المدينة، مليئة بآلاف الأوعية الصغيرة التي تحوي زهورًا عجيبة. كل زهرة كانت تمثل لحظة أو ذكرى لشخص ما في المدينة. كانت الزهور تتغير باستمرار: بعض الزهور تتفتح فقط عندما يتذكر صاحبها شيئًا مهمًا، بينما بعض الزهور تذبل مع مرور الوقت، وتختفي إلى الأبد.
بدأ ريان يراقب عن كثب. كانت هناك زهرة في وعاء خاص، يلتف حوله هالة من الضوء الذهبي. كانت الزهرة تبدو أكثر إشراقًا من باقي الزهور، وكأنها تحوي داخلها لحظة غامضة.
“هذه الزهرة تخصك،” همس الرجل بلا وجه، الذي ظهر فجأة من بين الظلال. “إذا كنت ترغب في تذكر كل شيء، عليك أن تشم رائحتها.”
عثمان اقترب من الزهرة بحذر، ولكنه شعر بشيء غير طبيعي في الأجواء. كان الهمس يتردد في أذنه، وكأن المدينة نفسها كانت تتحدث. أخذ نفسًا عميقًا من الزهرة، وعندما شعر بعبيرها، أحسَّ بشيء غريب يحدث: ذكرياته بدأت تتداخل. رأى صورًا لم تحدث في حياته أبدًا، وسماع أصوات لا يعرف مصدرها.
المدينة بدأت تهتز، كما لو أنها تسحب ذكرياته منه.
“لا يمكنك استرجاع شيء دون أن تدفع ثمنًا”، قال الرجل بلا وجه بابتسامة غامضة.
عثمان شعر بشيء من الضياع. كانت الذكريات التي بدأ يتذكرها ليست خاصة به. كانت جزءًا من شخص آخر. بدأ يشعر بأن الحدود بين ذاكرته وذاكرة المدينة بدأت تختفي.
________________________________________
الفصل الثالث: البقايا وعلاقة التبادل
في المساء، بينما كان عثمان يستكشف المزيد من المدينة، وجد مجموعة من الأشخاص يسيرون في أزقة مظلمة. كانوا يطلقون على أنفسهم “البقايا” – أشخاص لا يملكون ذكريات واضحة، لكنهم يستطيعون رؤية المستقبل، وهم عالقون بين الماضي والمستقبل، لا يذكرون اللحظات التي مَرُّوا بها، لكنهم يشعرون دائمًا بأنهم قد عاشوا شيئًا غريبًا غير مألوف.
أحدهم اقترب منه وقال: “هل تود أن تتعلم كيف ترى المستقبل؟”
حينئذٍ تساءل عثمان مع نفسه كيف يمكنه أن يرى المستقبل، وهو لا يستطيع أن يسترجع ماضيه؟ لكن من دون تفكير، وافق.
“سنعلّمك كيف تتبادل الذكريات. عليك أن تمنحنا شيئًا ثمينًا، ونحن نشاركك فيما تبقى من رؤى، رؤى لم تحدث بعد. قد تراها وتعيشها، ولكن لا يمكنك أن تحتفظ بها.”
شعر ريان بأن الطريق أصبح أكثر تعقيدًا. هل سيظل يبحث عن ماضيه، أم سيخاطر في تبادل الذكريات مع “البقايا” ليكتشف ما يخبئه له المستقبل؟
________________________________________
الفصل الرابع: الباب السري
كلما مرَّ الوقت، بدأت الأبواب السرية تظهر أمام عثمان، وأصبح أكثر اقتناعًا بأن هناك طريقة واحدة للخروج من هذا المكان، طريقة واحدة لفهم معنى كل هذه الذكريات، لكن الباب السري كان يحتاج إلى تضحية كبيرة.
أحد البقايا أخبره بأن هناك بابًا أخيرًا، وهو يقود إلى “الذاكرة الأصلية”، حيث لا يمكن للوقت أن يمر، وحيث يمكن للذكريات أن تتجمع كما لو كانت لوحة واحدة ضخمة. لكن عند عبور هذا الباب، سيُضطر عثمان إلى التخلي عن لحظة معينة من ماضيه، لا يمكنه استعادتها أبدًا.
هل سيخسر عثمان ذكرياته الخاصة ليتعلم الحقيقة؟ أم سيختار أن يعيش في هذه المدينة الفارغة، حيث لا شيء ثابت ولا شيء حقيقي؟
________________________________________
الفصل الخامس: عبور الباب السري
عثمان وقف أمام الباب السري، شعور غريب يعتريه. كان الباب محاطًا بضباب كثيف، وقد ترددت في أذنه كلمات “البقايا”: “عليك أن تختار، لا يمكنك العودة كما كنت.”
دفع الباب ببطء؛ ليكشف عن عالم آخر، عالم بلا حدود. لم يكن هناك سماء ولا أرض، فقط مزيج من الألوان المتداخلة والذكريات التي تتطاير كأنها أوراق ميتة في الريح. كانت الذاكرة الأصلية، كما أخبروه، هي المكان الذي تلتقي فيه جميع اللحظات، لكن لا أحد يملك القدرة على فهمها أو السيطرة عليها.
في هذا العالم الغريب، أدرك عثمان أنَّ الذاكرة لم تكن مجرد تذكر، بل كانت جزءًا من “الكون” نفسه. كان الماضي والحاضر والمستقبل متداخلين، كأن الزمن نفسه قد أصبح في فوضى. كان يرى مشاهد من ماضيه تختلط مع مشاهد مستقبلية لم تحدث بعد، وشعور غريب بالزمن الذي يهرب منه.
كانت هناك زهرة جديدة وسط هذا الفضاء الغريب، تختلف عن باقي الزهور، سوداء رمادية، وليس لها رائحة. قال الرجل بلا وجه وهو يظهر فجأة:
“هذه الزهرة هي ما ستخسره. لن تكون قادرًا على تذكرها أبدًا. ولكنها ستكون جزءًا منك، جزءًا لا تستطيع الرجوع عنه.”
عثمان فهم الآن، أنَّ الذاكرة الأصلية ليست مجرد لحظة ثابتة. إنها لحظة مفقودة، لحظة لا يمكن امتلاكها إلا بالتضحية بشيء عزيز. قد تكون الذكرى المفقودة جزءًا من ذاته الذي لا يستطيع أن يسترجعه أبدًا.
________________________________________
الفصل السادس: التضحية والتجدد
وقف عثمان أمام الزهرة، وعيناه تتأملانها، محاولًا استيعاب كل ما يحدث. في تلك اللحظة، شعر بأن المدينة الفارغة بدأت في التأثير عليه بشكل غريب. كان يرى كل الوجوه التي مر بها طوال رحلته، وكل لحظة ضاع فيها شيء من ذاكرته. كانت الوجوه تتناثر حوله كظلال، وفي كل ظل، كان هنالك جزء مفقود من ذاته.
تردد قلبه. هل سيختار أن يضحي بذكرى؟ أم سيختار العودة إلى المدينة الفارغة، ليعيش في الظلال المبعثرة؟
“اختر!”، همس الصوت في أذنه.
عثمان أغلق عينيه، وأخذ نفسًا عميقًا. وفي تلك اللحظة، قرر أن يترك الزهرة تتفتح في قلبه، ليختبر عواقب الاختيار. خسر لحظة واحدة، تلك اللحظة التي كانت أهم لحظاته في حياته، لكنه شعر بشيء غريب، كأنها بداية جديدة.
“الذاكرة الأصلية ليست مكانًا، بل هي لحظة من الزمن لم تحدث بعد. هذه اللحظة هي التي ستظل معك إلى الأبد.”، قال الرجل بلا وجه، وهو يختفي وسط الضوء المتوهج.
________________________________________
الفصل السابع: العودة
عثمان عاد إلى المدينة الفارغة، ولكنه لم يعد كما كان. كان هناك شيء مختلف في قلبه. لم يشعر بالضياع بعد الآن، ولم يكن يواجه هذا التداخل المربك بين الماضي والمستقبل. أصبح الزمن بالنسبة له أكثر مرونة، وأكثر انسيابية.
كانت المدينة ما تزال كما هي، لكن كل شيء بدا مختلفًا. بدأ الأشخاص الذين كانوا يعيشون في الأزقة المظلمة يبتسمون لأول مرة، وظهرت الزهور في الأوعية أكثر إشراقًا، كأنها تعبر عن سكينة غريبة. بدت المدينة وكأنها تبدأ من جديد.
عثمان أدرك أخيرًا أنَّ الذاكرة ليست ما نحتفظ به، بل هي ما نختار أن نعيشه. في اللحظة التي قرر فيها التضحية بشيء ثمين، اختبر التحول: تحول في ذاته، في فهمه للزمن، وللكون الذي يسير فيه. لم يعد الزمن عقبة، بل أصبح الحرية.
لكن الأغرب من ذلك، كان شعوره بأن هناك بابًا آخر، باب يفتح على عالم جديد. لا أحد يعرف ماذا وراءه، ولا حتى هو. ومع ذلك، قرر ألا يبحث عنه الآن، بل قرر أن يترك المدينة الفارغة في قلبه، وتظل حية في ذاكرته، كمكان تعلم فيه كيف يستطيع أن يختار اللحظات التي يعيشها.
النهاية
Discussion about this post