حُفر ذاك اليوم في ذاكرتي حفراً: يوم اشتد بي المرض، وأنا بين أهلي، الذين هرولوا بي إلى المستشفى.
بدت رحلتي من البيت إلى المستشفى طويلة المدى، لم أر خلالها أياً من الطرق التي سلكتها سيارة الإسعاف. كان كل ما رأيته هو نواح أبي بعينيه المتقرحتين اللتين جعلتا أسوار الدنيا تتهدم أمام عيني.
لم أكن أعي ما كان يحدث لي، ومع ذلك فرحت بإمكانية رحيلي عن هذا العالم، لألتقي في العالم الآخر بمن فقدتهم من أحبائي بعد الحادثة المأساوية التي وقعت مصيبتها على عائلتي السنة المنصرمة.
عند إلقائي على سرير في ركن من أركان قسم المستعجلات المعتمة، قرر الفريق الطبي مباشرة تخديري.
لم أدرك السبب؟
كنت أصغر من فك طلاسم الأطباء، الذين غابت عنهم حساسيتي تجاه المواد المخدرة، التي كانوا يدسونها في أوردتي. فقد كانت أولى جرعات المخدر في شراييني تقذف بي في عوالم خيالية، داخل نفق حالك تخيم عليه مخلوقات ظلامية تحيط بجسدي تماماً وأنا أنزلق
أنزلق
أنزلق
أنزلق كمن يمتطى أفعوانا في مدينة الألعاب.
بدل الخوف، شملني إحساس بالسرور وتملكني إحساس بالتحرر…
تبدد الألم. فقلت لنفسي :
– “لا بد أنني مت”.
بعد لحظات قليلة، اندثر الظلام وبدأت الصور الملونة تعود إليّ رويداً رويداً، فرأيتني مربوطاً بخيط شفاف فضي، يلف جسدي الأثيري من منتصفه وهو يتأرجح في فضاء الغرفة تارة ويحوم حول نفسه تارة أخرى.
سمعت الأطباء يتلاسنون:
– “لنحاول للمرة الأخيرة”.
فكرت في والدتي. تحرري من الجسد جعلني قادراً على اختراق الحائط لرؤيتها. كانت تبكي دماً عليّ. ابتغيت مخاطبتها. لكنها لم تبال. بل لم تسمعني أو تبصرني.
هممت بالعودة لمراقبة ما يفعله عديمي الخبرة بجسدي. كانت الغرفة سوق خضر حقيقي، سيدته حيرة الأطباء المنغمسين في تسليط الصدمات الكهربائية على صدري. مع كل صدمة، كان السرير ينتفض تحت بدني حتى كنت أسمع قرقعة عظامي. لم تُجدِ رماحهم نفعاً، فصاروا يخبطون على صدري، ويدعكون أطرافي.
كنت أعلم أنني لقيت حتفي. وكنت أرى جسدي المادي على غير العادة. لم يكن مسطحاً كما كنت أراه منعكسا على المرآة. كنت أراه كاملاً ومن زوايا وأبعاد مختلفة.
طنت أجهزة المراقبة معلنة خبر وفاتي، الذي استقبلته والدتي بزئير زلزل المستشفى، حتى بدت كلبؤة جريحة أكلت الضباع شبلها.
مزّقت تلك اللحظات ما بقي بداخلي، وأدركت بأنني لن أعود رفقة أسرتي إلى البيت: لقد صرت طيفاً لا وجود له بينهم…
لقد صرت اليوم طيفاً من أطياف الكون، لا رادع يستطيع الوقوف في وجهه: لا الزمان ولا المكان. أستغل قدراتي الخيالية بالتواجد مع أحبتي، لأكون الملاك الحارس لهم. أزورهم دائماً لأستأنف بعدها السباحة بين السموات الصافية والأراضي الشاسعة.
هكذا سأحيا: حراً… ولهذا الهدف سأعيش: الذود عن سلالتي وحمايتها من عبث العابثين وشرور الأشرار…
أخيراً، وجدت الحرية التي طالما تمنيتها…
أخيراً، يمكنني الاطمئنان للقادم من الأيام…
Discussion about this post