قراءة فنية بعنوان: “رحلة الروح في عوالم الحب والفراق”
قصيدة المبدعة الشاعرة منيرة الحاج يوسف
د. آمال بوحرب باحثة وناقدة
تُعتبر الآراء النقدية حول الشعر مكونًا أساسيًا في فهم أثره وعمقه. يرى العديد من النقاد أن الشعر مرآة تعكس مشاعر الإنسان وتجربته في الحياة و يعد وسيلة للتعبير عمّا قد يعجز عن قوله اللّسان، في هذا السياق، يقول الشاعر الفرنسي “بول فاليري”: “الشعر هو تنفس العقل الفردي، وهو يتيح للروح أن تعبر عن نفسها في أسمى صورها” و هذا التعبير ينقل فكرة أن الشعر ليس مجرد كلمات على ورق، بل هو تجربة روحية إنسانية عميقة.
كما يقول الشاعر المصري “أمل دنقل” في قصيدته “لا تصالح”: “ما اللغة في النهاية إلا وسيلة لتدفق الدم في عروق العشق” وعليه فإن أغلب القصائد تعبر عن تجارب إنسانية وروحية واجتماعية وأحاسيس ومشاعر قد تكون صعبة التوصيل، مثل الألم، العشق، والأسى، مما يجعله أداة جمالية للاقتراب من أعماق النفس الإنسانية وعليه أردت قراءة هذه الكلمات العميقة وأتعرف على الأبعاد الدينية والروحية من خلال جمال الصّور الشعرية والأسلوب .
تقول الشاعرة المتميزة ابنة جربة الساحرة
منيرة الحاج يوسف/تونس
” النّاسكة”
وكيف أكونُ؟
وأنتَ كحرف تمرَّدْ
وما أَسعفتهُ النّقاطُ
فمِن كلِّ معنًى تَجرّدْ
أنا هشّةٌ مثلُ قشّه
فرفقًا بِحالي
ولا تتشدّد
هواك غَزانِي
فصرتُ تراتيلَ عشقٍ
كناسكةٍ كلَّ حينٍ أُردّدْ
الا يا إلهي بحالي تلطف
وفي غَسَق اللّيلِ
لمّا تَهيجُ شُجوني
أُصلّي صلاةَ التّهجدْ
وأدْعو بكلّ يقينٍ
أطيلُ التّعبّدْ
عسانيَ أنعم منك بدفءٍ
يُغازِلني و يُهدهِدْ
ومَهما تَجاسرَ نَبضي
فإنّي إذا ما التقيتُك ذُبتُ
وخدّي تورّدْ
ومهما تخفّيتُ أو حصّنتني قِلاعٌ
عليلٌ فُؤادي ، طويلٌ سُهادي
فحُزني استحالَ رفيقًا وفيّا
كعهد تجدد
وهذا الذي فيه قلبي كسجن مؤبَّدْ
وفي الحرب قد لا يفيد الرّباطُ
وقد لا تفيدُ الحصونُ
إذا ما العدوُّ
سِهامَه نحوَك سَدّدْ
وفي الحبِّ، هجرُ الحبيبِ
كَلسعِ السّياطِ
أشدُّ عذابا واقسى…
إذا ما غياب الحبيبِ استمرَّ
نهارُ المُحبّين في البُعد أسْودْ
قصيدة “النّاسكة” للشاعرة التونسية منيرة الحاج يوسف تحمل في طياتها عمقاً شعورياً وتجربة إنسانية متكاملة تعكس مشاعر الحب والفراق فكيف يمكن أن يتداخل الحب مع الإيمان؟ وكيف يمكن للمشاعر الإنسانية أن تتخذ طابعاً عبر الروحانية؟
1. البعد الديني في القصيدة
يمثل الدين محورًا مهمًا في تجربة الشاعر، حيث يساعد على تشكيل رؤيته للعالم وتفسيره للتجارب الحياتية مما يعكس التفاهم العميق بين المشاعر الإنسانية والإيمان كما قال الشاعر المصري “أحمد شوقي”: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” فتبرز فكرة أن القيم الروحية والدينية تُشكل سلوكيات الأفراد وتعكس هويتهم.
وفي قصيدة “النّاسكة” يمكن اعتبار الشاعرة منيرة الحاج يوسف قد جسدت هذا البعد من خلال استدعاء القوة الروحية في أوقات الضعف فهي لا تتردد في الإشارة إلى الخالق، وتتميّز بالتجسيد القوي للأبعاد الدينية من خلال التضرع والدعاء،
تبدأ الشاعرة بعبارة “الا يا إلهي بحالي تلطف”، مما يعكس العلاقة الروحية العميقة التي تربطها بالخالق، في وقت تعاني فيه من الفراق والأسى. تُظهر هذه الجملة ليس فقط قلقها بل أيضاً إيمانها بأن الله هو الملجأ الوحيد في لحظات الضعف.
كما تُشير إلى الصلاة و”صلاة التّهجد”، وهي عبادة تعتمد على الخشوع والتقرب إلى الله في أوقات السكون والليل هنا، تُعبر الشاعرة عن كيفية اعتمادها على الإيمان لمساعدتها في تجاوز آلام قلبها وباستخدام هذه الرموز الدينية فهي تعزز من قيمة الفهم الروحي للعلاقات الإنسانية، ويعكس الابعاد الدينية ودورها في التعامل مع الصعوبات.
2. البعد الروحي في القصيدة
إن التجربة الروحية هي تجربة محورية في كتابة الشعر، حيث تعبر عن النضال الداخلي والبحث عن الذات. يتطلب الشعر أحيانًا نزعة صوفية، حيث يجد الشاعر نفسه في حوار دائم مع نفسه وعالمه الخارجي. في هذا السياق، يقول الشاعر السوري “نزار قباني” : “الحب الذي لا يُقاس، هو الحب الذي يراود أرواحنا في الظلام.” يشير هذا إلى أن الحب والتجربة الروحية تندمجان في لحظات من التأمل العميق، كما نجد في قصيدة “النّاسكة”. إن هذا الانعكاس الروحي يساعد في التعبير عن مشاعر الفراق والألم الدفين، مما يجعلها تجربة محسوسة بكل تعقيداتها تتجلى الروحانية في القصيدة
من خلال تصوير الشاعرة لنفسها على أنها “هشّة مثل قشّه” مما يُظهر شعورها بالضعف والانكسار هذا التعبير لا يُعبر فقط عن الحالة النفسية الذي تمر بها بل يُبرز أيضاً الجانب الروحي الذي يتقاسمه العديد من الأشخاص في لحظات الفقد، حيث يشعر الإنسان بعجزه وبحاجته إلى العزاء الروحي.
إن مشاعر الشاعرة تجاه الحبيب تمزج بين الحب والتعذيب الروحي، حيث تُظهر أن الحب، هجرُ الحبيبِ كَلسعِ السّياط” هنا تؤكد على أن الفراق يكون أكثر ألماً من أي عذاب آخر، مما يحيل إلى العلاقة الروحية العميقة التي تربط المحبين علاقة جدلية بين الرغبة والواقع فتشير إلى إن هذا الذكر للمعاناة يُعكس كيف يمكن للحب أن يكون وسيلة للألم ومع ذلك، يشعر القلب بالاحتياج الدائم إلى الارتباط الروحي بالحبيب.
3. العلاقة بين الإيمان والحب
لا يمكن إغفال العلاقة العميقة بين مشاعر الحب والإيمان، حيث تشير العديد من النصوص الأدبية إلى عمقها وترابطها يقول الشاعر الباكستاني “محمد إقبال”: “الحب هو روح الكون، وهو الرابط الخفي الذي يجمع بين الإنسان ومعنى الوجود” وهذا ما تبين من خلال التداخل بين الحب والدعاء في قصيدة “النّاسكة” حيث تعكس هذه الفكرة حبا مختلفا هنا يُعتبر نوعًا من العبادة، مما يجعل التجربة العاطفية تجربة روحية تتجاوز الحدود الشخصية ويظهر في الأبيات كيف تندمج مشاعر الحب مع الإيمان، حيث تعبر الشاعرة عن رغبتها في دفء الحبيب بشكل يعكس السبيل الروحي الذي يُعرف به الحب. عبارة “عسانيَ أنعم منك بدفءٍ” تحمل في طياتها حاجة إنسانية عميقة إلى الراحة والعزاء فتشير إلى ذلك الشعور الذي يحتاجه المحب ليشعر بالسكينة في ظل الصعوبات.
بينما تُعبر الشاعرة عن عذاباتها وجراحها، نجد أن الدعاء واللجوء إلى الله يعدّان بمثابة نبراسٍ يُضيء لنا سبيلها الحضاري الخاص. إن الدعاء هو وسيلة لإيجاد القوة في الضعف، وهو ربط وثيق بين الحب حيث يصبح الإيمان مصدراً للقوة والتوجيه.
4-التحليل الفني للقصيدة
العنوان :اختيار “النّاسكة” كعنوان للقصيدة يحمل دلالات عميقة تشير إلى طابع روحاني أو ديني للحب. فالناسك في الثقافة الإسلامية يرتبط بالتضرع والإخلاص، مما يعكس كيف يمكن للحب أن يكون عبادة وتعبداً. يُبرز العنوان العلاقة الروحية العميقة بين المحب والمحبوب، كما يُظهر كيف يُمكِن أن يُمزج بين الروحانية والمشاعر الإنسانية.
اللغة والأسلوب:تتميز لغة الشاعرة بالعمق والوضوح، حيث استخدمت أساليب بلاغية قوية تعكس عواطفها وجراحها. من خلال التشبيهات والاستعارات، تتجلى شفافية الشاعرة في استخدامها للتعبير عن مشاعرها، مثل قولها: “أنا هشّةٌ مثلُ قشّه”، والتي تُظهر مدى ضعفها واستسلامها لمشاعر الألم والحنين واستخدام الفعل “تجرّد” يسهم في تجسيد إحساس الوحدة والعزلة، مما يضفي عمقًا على الشعور الذي تعبر عنه الحاج يوسف.
الايقاع :تأتي القصيدة بأسلوب مختلف حديث حيث تنطبق القوافي في بعض في الأبيات، مما يضفي إيقاعاً موسيقياً يحس به القارئ. هذا الإيقاع يسهم في تعزيز تجربة القراءة ويَسهل على القارئ الإحساس بالمشاعر المتدفقة في النص، كما يُضفي روحانية تليق بمضمون القصيدة.
5-الشعور والمضمون
تعبر الشاعرة عن تجربة الحب التي تحمل مشاعر متناقضة، حيث تنقل لنا الشغف والألم والهجران. تحاول بذل جهد للتعبير عن قوة تأثير الحبيب عليها، والتجارب الروحية التي تمر بها في غيابه. يُجسد الخوف من الفقد والتجربة المؤلمة لفراق الحبيب في تكرار فكرة “الحب، هجرُ الحبيبِ كَلسعِ السّياطِ”، مما يُعبر بوضوح عن شدة المعاناة التي تعيشها.
6-الصور الشعرية
تتجلى الصور الشعرية بشكل بارع في القصيدة، حيث يتم تصوير الحبيبة على أنها “تراتيل عشق” تعكس هذه الصورة العميقة الإحساس والعبق، وتُظهر كيف يمكن للحب أن يُصبح جزءاً من الروح، بمثابة نشيد يُعبر عن العواطف الجياشة فتعكس هذه الصور الشعرية تجارب الحب والرغبة مما يُضفي طابعاً حيوياً على النص
تتجلى الصور الشعرية في قصيدة “النّاسكة” للشاعرة منيرة الحاج يوسف بشكل مكثف من خلال العديد من الاستعارات والتشبيهات التي تعكس مشاعرها الداخلية وتعزز من عمق تجربتها تقول “صرت كناسكة ” فيظهر التشبيه مكانة الناسك الروحية مما يضفي طابعاً عبادياً على تجربتها في الحب ولعلها أكثرت من التنوع في استخدام الجمل الاستفهامية والأمرية، مثل “الا يا إلهي بحالي تلطف”، مما يبرز حالة التضرع والضعف
هذه الصور الشعرية تقدم إحساسًا بالعاطفة وعمق التجربة الإنسانية واستخدام الاستعارة في الوصف والتوضيح فتسمح للقارئ بالتفاعل مع مشاعرها ومعاناتها .
أخيرا تمثل قصيدة “النّاسكة”
لمنيرة الحاج يوسف تجربة إنسانية غنية ومعقدة، حيث تتناول الحب والفراق والشعور بالحنين من منظور روحي عميق من خلال أسلوبها المميز واستخدامها للأبعاد الدينية واللغوية، تخلق الشاعرة عالماً مليئاً بالتجارب الحسية وتجعل من “النّاسكة” عملاً يترك أثرًا في النفوس لتظهر للقارئ كيف يمكن أن يتداخل الجانب الروحي والديني مع التجارب الإنسانية. (المعاناة، الدعاء، والحب )لتُشكل نسيجا عميقا يجسد التجربة الوجودية في عبقرية شعرية لا تخفى فتبقى القصيدة شاهداً يجسد تجربة الوجود بكل تحدياته.
Discussion about this post