المقامة الغزالية
بقلم / أيمن دراوشة
حدثني صاحبي أبو النور الغزال، وكان فصيحَ اللسان، عذبَ البيان، فقال:
خرجتُ يومًا من منزلي وقد ضاق صدري بما حملته الأيام من ثقلٍ وضنى، فقلت في نفسي: “إنَّ هذه الدنيا ما هي إلا كالعروس في ليلة زفافها، تضحك حينًا وتبكي أحيانًا.” فقصدتُ السوق، لعلي أجد في رحابه ما يسر القلب ويسعده.
وفي طريق السوق، التقيتُ برجل غريب الأطوار، يلبس طربوشًا ذا لونٍ أزرق، وجلبابًا مطرزًا بخيوط من ذهب، فسألته بفضول: “أيها الرجل، ما شأنك؟” فرد عليَّ مبتسمًا وهو يقول:
“أنا الحاذق الفائق، في كل فنٍّ سباق، لي في الحكايات أذواق، وفي الأشعار إشراق”.
قلت له: “زدني من حديثك فقد أعجبني كلامك.”
فقال:
“أيا من يسأل عني، أنا كالبدر في سماء البديع، أرفع راية البلاغة، وأصوغ السجع والجناس كأنما هما على يديَّ مطيعان.”
ثم جلسنا في ظل شجرةٍ وارفة الأغصان، فأخرج من جيبه كتابًا قديمًا، تزينه حروف من فضة ونقوش من زمن بعيد، وبدأ يروي لي حكاية عن فارسٍ طائشٍ وغزالٍ هارب، قال فيها:
“كان الفارسُ على جواده كأنه الريحُ في انفلاتها، يلاحق الغزالَ في الغابة، وبينما كان الغزالُ يعدو كالبرقِ في العَجاج(1)، وقف عند نهرٍ تكسوه الزهور العابقة. الفارس ناداه قائلًا: ‘أيها الغزال! لو كنتُ على ظنِّي أنك من البشر، ما تركتك تعدو دون خبر!’”
فقلت له وقد أدهشني حديثه: “وهل هرب الغزال؟”
فابتسم وقال:
“قد فعل، لكن الفارس لم ييأس، بل جلس تحت شجرةٍ عظيمة الجذور، وبدأ يتأمل الكون.”
ثم تابع حديثه:
“أدرك الفارس أن السعي خلف الغزال ما هو إلا مجازٌ عن الحياة، فقال في نفسه:
‘يا لحماقة من يطارد سرابًا، ويسعى خلف أوهامٍ كظلال الغمام، فالفرصة تمضي كالريح لا تُمسك، والخير في الانتظار لا في اللحوق” (2)
ثم استدار الرجل الغريب نحوي وسألني: “ألم ترَ أيها الصديق أنَّ الدنيا كالغزال؟”
فأجبتُه ببيتٍ من شعري قائلًا:
“الحياةُ غزالٌ في البراري طائشٌ
يسعى وراءَه كلُّ من هو سائرُ.”
فابتسم ابتسامةً أشرقت منها روح الحكمة، وقال:
“أيها الفتى، إنك لا تحب أن تدرك الحياة، بل أنْ تعيشَ في مطاردتها.”
وبينما نحن في حديثنا، إذا برجلٍ من بعيدٍ ينادينا ويقول: “هيا، هيا، السوق يغلق أبوابه، والفرصُ تمرُّ فلا تنتظر أحدًا!” فتناول الرجل الغريب كتابه وغاب في الزحام، أما أنا، فقد بقيتُ أتأمل قوله: “السوق يغلق أبوابه.”
وهكذا عدتُ إلى منزلي وقد تعلمتُ من مقامتي هذه أن الدنيا سوقٌ، وبعض الفرص مثل الغزال، لا تُلحق.
فما أنفع الحكمة في ظلال الحكايات، وما أطيب العيش حين يُسجى بالسجع ويُطرز بالجناس!
— تمَّت —
1- العجاج : الغبار.
2- اللحوق: أدركه والتصق به.
Discussion about this post