كتب د/ بوخالفة كريم ـ باحث في علم الاجتماع ـ الجزائر
يعيش الإنسان في العالم المعاصر ضمن مجتمع تتخلله النزعة الاستهلاكية، وهي من أهم مفرزات مابعد الحداثة، إذ تنحصر أهداف الإنسان في امتلاك السلع الاستهلاكية الثانوية، بغرض مجرد اقتنائها أو العرض التقليدي، مما يوقعه فريسة التسوق، بحيث تشجع المؤسسات هذه النزعة وتساعد في انتشارها، الأمر الذي يجعل هذه النزعة الاستهلاكية من أبرز ملامح الحضارة المعاصِرة، ومن أهم التغييرات التي تواجِه الإنسان المعاصِر، فظهور أنواع جديدة من الحاجات ومن الرغبة في التسوق والإعلان، وتبدُّل التوقعات الشرائية وسلوك المستهلِك، قد أحدث حالات جديدة ومتنوعة من السلوكيات ومن تغيُّر القيم، مما يسبب له نوعاً من خيبات الأمل في حياة تخضع لهذه النزعة.
على الرغم من جِدّة ظهور النزعة الاستهلاكية في العصر الحديث، إلا أنه من الممكن ملاحظة آثارها منذ القرن الثامن عشر، فهي تتمثل في الانتشار الواسع للمحلات و وجود طرق جديدة للتسوق، بحيث أدرك أصحاب تلك المحلات ومنتجو السلع الاستهلاكية أن الرغبات والحاجات غير ثابتة، إنما لها قابلية كبيرة للتوسع و التجديد. فبدأ أصحاب المتاجر بنزع كل العوائق أمامهم بهدف إغراء الزبائن، كتغيير شكل واجهات المحلات و تزيين السلع، وإبراز الجانب الجمالي في المواد رخيصة الثمن، بهدف جذب الانتباه والإغراء بشرائها، مستخدمين لأجل ذلك كل الوسائل الممكنة، كاستخدام الصحف و الإعلانات والملصقات التجارية، كما تتميز هذه الموجة الاستهلاكية بتقليد الطبقات الأدنى والمتوسطة للطبقات العليا، بقيام المصممين بتقليد وسائل ومنتجات الرفاهية التي كانت تقدَّم للطبقات الأرستقراطية ولكن بنماذج أرخص. ولعل أبرز أسباب ظهور هذه النزعة هو الرخاء الاقتصادي واكتساب الأموال الجديدة والجذابة وطرق التسوق، وغيرها.
وهذا ما بحثه جان بودريار وأفرد له كتاباً خاصاً هو “المجتمع الاستهلاكي”. فيصف هذا العالم المعاصر بأنه عصر الأغراض. ويقصد بذلك أننا نعيش في ظل عالم استهلاكي، يستخدم الحاجات الثانوية الكمالية، ويُحوّل كل شيء، وكل قيمة إلى سلعة قابلة للتداول.
وقد استمر تعاظم النزعة الاستهلاكية في العالم المعاصر،
مع تطور التقنيات وانتشار وسائل الإعلام، وظهور أدوات
ووسائل جديدة للاستهلاك، ومن أبرز هذه الأدوات الجديدة “التلفاز” وإعلاناته المؤثرة في تحريض المطالب الاستهلاكية لدى الجماهير، ولاسيما عند الأطفال، إضافةً إلى التطور الهائل في عملية البيع والشراء الذي ساعدت عليه التقنيات المتطورة، لاسيما انتشار الانترنت الذي يفسح المجال أمام التسويق الأوسع، والانتشار الهائل في الإعلان عن السلع الجديدة على أوسع مجال.
فكثرة المنتجات وتنوعها، أثّر في تحديث آليات وتقنيات
البيع بما يناسب هذا التطور الهائل في حركة البيع و الشراء والاستهلاك، والذي يوقظ حاجات جديدة لدى الجمهور تتناسب مع السلع المعروضة، وبذلك يتضخم الاستهلاك وتندفع عجلته دون توقف. كل هذا يؤثر في تغيير المفاهيم و العادات، وتحريض الناس على الاستهلاك والإنفاق أكثر، وشراء سلع مختلفة ولو بالتقسيط لا بهدف سدّ حاجاتهم الأساسية، بل بغرض إشباع رغباتهم في التملك، وتحولهم إلى أفراد مستهلكين. وحول هذا يقول بودريار : “إن الاستهلاك لا يفكك الوقاحة الاجتماعية، من خلال إغراق الأفراد في الرفاه والمكانة المرموقة. بل على العكس من خلال ترويضهم على نظام قاعدة اللاوعي، ومن خلال التعاون التنافسي على هذه القاعدة”.
وهنا يتضح نقد بودريار للمجتمع الاستهلاكي الذي يقصِر حياة الفرد بالمظاهر السطحية والزائفة، والتي لا تدوم إلا لفترة قصيرة جداً، وتوهِم الفرد أنه قادر على امتلاك كل شيء ويصل إلى الرفاهية والرقي، لكنها في الحقيقة لاتزيده إلا بؤساً، لأنه لن يتمكن من الحصول على كل تلك السلع. وهذا إنما يمثِّل ضغطاً عنيفاً على الفرد في دفعه قسراً لمواكبة واقتناء هذا الإنتاج السِلَعي المتسارع.
وبذلك يتميز المجتمع الاستهلاكي بالسطحية واهتمامه باقتناء كل ماهو كمالي وثانوي وزائد عن الحاجة، وترويج هذه السلع عبر وسائل الإعلام المختلفة وتقديمها بصور جذابة، بهدف إغراء المستهلك، مايؤدي إلى الإسراف في اقتناء تلك البضائع، وتلك من أبرز سلبيات هذه النزعة الاستهلاكية بنظر جان بودريار.
ما هي النزعة الاستهلاكية؟
النزعة الاستهلاكية تشير إلى الاتجاه أو السلوك الذي يدفع الأفراد أو المجتمعات إلى استهلاك المزيد من السلع والخدمات. يعكس هذا السلوك الرغبة في التمتع بالأشياء المادية واستخدام الموارد بشكل دائم. النزعة الاستهلاكية قد تكون مدفوعة بعوامل متعددة، منها:
1.الإعلانات والتسويق:يمكن أن تؤثر حملات الإعلانات والتسويق بشكل كبير على سلوك الاستهلاك، حيث تشجع على اقتناء المزيد من المنتجات.
2.الضغط الاجتماعي: يمكن أن يكون للضغط الاجتماعي دور كبير في دفع الأفراد إلى مواكبة التطورات الاجتماعية واقتناء الأشياء الجديدة والموضوعات.
3.التطور التكنولوجي: مع التطور التكنولوجي المستمر، يمكن أن تظهر منتجات وخدمات جديدة تحفز الناس على الاستهلاك.
4.الرغبة في التجديد والتحسين:يمكن أن تدفع رغبة الأفراد في تجديد وتحسين حياتهم إلى زيادة الاستهلاك، سواء كان ذلك من خلال شراء منتجات جديدة أو تحسين الخدمات التي يستخدمونها.
5.التأثير الاقتصادي: في البعض الأحيان، قد يتزايد الاستهلاك في حالة التحسن الاقتصادي، حيث يشعر الأفراد بالثقة في مستقبلهم المالي ويزيدون من نفقاتهم
ترى النزعة الاستهلاكية أن استهلاك المزيد من المُنتجات والخدمات أمر إيجابي ،وبذلك هي تشجع الناس على أن يمتعوا أنفسهم ، بل وأن يقتلوا أنفسهم ببطء بسبب الافراط في الاستهلاك ، وتنظُر إلى التقشف على أنه مرض يحتاج العلاج . ليس عليك أن تبحث بعيداً لترى كيف تعمل أخلاقيات الاستهلاك ؛ اقرأ فحسب الجزء الخلفي لعلبة حبوب الإفطار. وفيما يلي اقتباس من علبة لواحد من حبوب الإفطار المفضلة لدي ” تحتاج في بعض الأحيان إلى متعة. تحتاج في وقت ما إلى قليل من الطاقة الإضافية. هناك أوقات لتنتبه لوزنك وأوقات أخرى لتحصل وحسب على شيء ما … الآن! تقدم تلما مجموعة متنوعة من الحبوب اللذيذة لك أنت فقط ؛ متعة بلا ندم.”
عبر أغلب التاريخ كانت ردة فعل الناس على هذه الكلمات في الأغلب أن ينصرفوا عنها لا أن ينجذبوا لها، وكانوا ليصفوها بأنها أنانية ومنحلة وفاسدة أخلاقياً. عملت النزعة الاستهلاكية بجهد بمساعدة علم النفس الشعبي (افعلها وحسب!) لإقناع الناس أن الانغماس في الملذات جيد، في حين أن التقشف قمع للذات. نجحت في ذلك، فنحن جميعاً مستهلكون جيدون؛ نشتري عددا لا يحصى من المنتجات التي لا نحتاجها بالفعل، والتي لم تكن حتى يوم أمس نعرف بوجودها. تتعمد الشركات المصنعة تصميم سلع قصيرة الأجل وابتكار نماذج جديدة وغير ضرورية لمنتجات مُرضية تماماً يجب شراؤها كي نبقى “مواكبين”
” تُخبرنا النزعة الاستهلاكية أنه لكي نكون سعداء يجب أن نستهلك أكبر عدد ممكن من المنتجات والخدمات .
إذا شعرت بشيئ مفقود أو ليس كما يجب فربما تحتاج لشراء منتج ( سيارة ، ملابس ، طعام جديد ) أو خدمة ( تدبير منزلي ، دروس يوغا ) يشكل كل اعلان تجاري أسطورة عن جعل الحياة أفضل !
تتناغم الرومانسية التى تشجع التنوع مع النزعة الاستهلاكية : تأسست عليها صناعة السياحة الحديثة، لا تبيع السياحة تذاكر الطيران والفنادق بل تبيع خبرة التنوع والاستهلاك ، باريس ليست مدينة ولا الهند دولة ، بل هما خبرات سياحية ! عندما يحدث خلاف زواجي عليك بالقيام برحلة ! أو تغيير الشريك بسرعة ! ليست الرحلة انعاكساً لبعض الرغبات المستقلة ، بل ايمان قوي بخرافات النزعة الاستهلاكية الرومانسية
لم يكن اي رجل ثري فى مصر القديمة مثلا يحل ازماته الاسرية بأخذ زوجته فى رحلة إلى بابل أو للتزحلق على الاعمدة في فينيقيا.
النظام المتخيل جمعي : حتى لو نجحت بجهود جبارة فى تحرير رغباتي الشخصية من عبودية النظام المتخيل … فأنا شخص واحد فقط … وعلى أن أقنع ملايين الغرباء بالتعاون معي!
يُشكل النظام المتخيل رغباتنا : لايرغب معظم الناس فى تقبل ان النظام الذي يحكم حياتهم هو نظام مُتخيل ، لكن فى الحقيقة يولد كل شخص فى نظام حياة مُتخيل له ، وتشكل رغباته منذ الولادة أساطير مهيمنة ، وتصبح رغباتنا الشخصية أهم دفاعات النظام المتخيل.
النزعة الاستهلاكية قدمت مايسمى بثقافة السوبرماركت حيث تنامت النزعة الاستهلاكية بشكل مخيف في العالم المعاصر، فأصبح كل شيء قابل للتبادل والبيع، وكل شيء له قيمته السوقية، وبات الاستهلاك أقرب للوباء الذي أصاب البشرية.
وأن الوضع الاجتماعي قد يغذي بعض الطبقات بمركبات من النقص قد تؤثر على أنماطها الاستهلاكية، وتدفعها نحو استهلاك سلع معينة، والاحجام عن سلع أخرى، فالهزيمة النفسية تفتح أبوابا للاستهلاك في النفس، وتغذيها بشهوة تقليد فئات اجتماعية بعينها.
ويلاحظ أن ثقافة السوبر ماركت تُعظم اللذة، فيخضع الشخص للذة وينقاد لمقتضيات الحصول عليها، فتغيب كل قيمة ومعنى للحياة، ويصبح تمركز الإنسان نحو الأشياء، وكما يقول “مالك بن نبي“:”إذا غابت الفكرة بزغ الوثن”، فالأوثان التي يوجدها عالم الاستهلاك يكون مستقرها في النفس، حتى وإن بدت معالمها على أرفف الأسواق.
كان البائع أو (البقال) في السابق متغلغلا في النسيج الاجتماعي، ولا تخلو علاقاته الاجتماعية من الرحمة في بعض الحالات، كذلك كان البقال يسمح بتأجيل بعض مستحقاته لنهاية الشهر أو حتى مع موسم الحصاد في الريف، وهو ما حجم من الاستهلاك وقصره على الاحتياجات الضرورية، لكن في “السوبر ماركت” الإنسان يكون في مواجهة السلعة مباشرة، وعندما يمضي لدفع الثمن يكون أمام جهاز الكمبيوتر الذي يحسب الأسعار، فصارت العلاقة تعاقدية صارمة.
وحسب جيل ليبوفتسكي في كتابه “عصر الفراغ”إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها
عصر مـا بـعـد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن
السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول
على كــل شيء في التوِّ واللحظة، ممـا أدَّى إلى إيغال
هــذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لـكـل
شيء، مـن شخصنة الـجـسـد بإضفاء طـابـع الـقـداســة
والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعـري احترامًا وتوقيرًا
لـه، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ مـن محاربـته،
إلى شـخـصنـة الـديـن بـطـلـب ديـن عـلـى الـمـقــاس،
Discussion about this post