كقارئة عربية عاشقة للسرد الأدبي، لطالما شكلت الكتب بالنسبة لي عوالم مفتوحة على مصراعيها. كنت أغوص بين صفحات “ألف ليلة وليلة” بنصوصها الساحرة، وأتابع رحلات “جبران خليل جبران” في أعماق الروح الإنسانية. من “نجيب محفوظ” الذي أهداني نظرةً ثاقبةً إلى تفاصيل الحياة اليومية في القاهرة، إلى “ماركيز” الذي نقلني إلى عوالم واقعية سحرية في “مائة عام من العزلة”، كانت الروايات بالنسبة لي بمثابة نافذة إلى عوالم متعددة وسحرية.
لكن العالم يتغير، والشاشات التي كانت في الماضي مجرد أدوات للتسلية أصبحت الآن تحاكي الحكايات بشكل لم يسبق له مثيل. في هذا العصر الرقمي، حيث أصبحت الألعاب الرقمية تأخذ مكانها بجانب الأدب الكلاسيكي، نجد أن السرد لم يعد محصورًا بين دفتي الكتاب. لعبة مثل “The Witcher” لم تقتصر على كونها تجربة ترفيهية، بل تحولت إلى عمل أدبي متكامل يستحق الإشادة، حيث أبدع “أندريه سابكوفسكي” في بناء عالم غني ومعقد يجعل من كل لحظة في اللعبة تجربة سردية فريدة. وتضيف “The Last of Us”، بتفاصيلها الدقيقة وتعقيدها العاطفي، لمسة من الإنسانية العميقة التي تجذب القلوب وتدعو للتفكير، تمامًا كما فعلت روايات “تشارلز ديكنز” في أعماله مثل “أوليفر تويست”.
في عالم الأدب العربي، كنت قد عايشت أيضًا أعمال “أحمد مراد” و”رجاء الصانع” التي سعت إلى إدخال تجارب جديدة في السرد. ولكن مع كل محاولة للتجديد، شعرت أن الرواية العربية لا تزال تتأرجح بين الأصالة والحداثة، وتحتاج إلى دفعة تواكب التطورات الرقمية. من “أمين معلوف” الذي مزج بين التاريخ والأدب في “ليون الإفريقي”، إلى “يوسف زيدان” الذي استلهم من التاريخ العربي ليقدم سردًا حديثًا، يسعى الأدب العربي إلى التجديد، لكنه ما زال يقف عند مفترق طرق.
تطرح هذه التحولات سؤالاً عميقًا: كيف يمكن للرواية العربية أن تستلهم من تقنيات السرد الحديثة التي تقدمها الألعاب الرقمية، وتواكب تلك الأمواج المتلاطمة؟ هل يمكن أن تستفيد من السرد التفاعلي والنصوص التي تأخذ القارئ في رحلة ممتعة عبر الخيال، كما فعلت ألعاب مثل “Cyberpunk 2077″؟ قد تكون هذه الأساليب فرصة لإعادة اكتشاف الأدب العربي وتقديمه لجمهور جديد يبحث عن تجارب أدبية تتجاوز الحدود التقليدية.
في ختام هذه الرحلة بين صفحات الكتب وشاشات الألعاب، أجد نفسي كقارئة عربية تأملت في عوالم متباينة، من تلك التي نُسجت بحروف الإنجليزية والفرنسية، إلى الروايات المترجمة التي جلبت عبق ثقافات بعيدة إلى لغتي الأم. ومع كل هذه القراءات، لا يمكنني أن أغفل ما حملته لي الرواية العربية من ثراء وتجدد، فقد كانت كل رواية عربية بمثابة مرآة تعكس تنوع ثقافاتنا وتجاربنا، وتنقلني من أزقة القاهرة في “الثلاثية” لنجيب محفوظ، إلى أجواء الأندلس في “سيدات القمر” لجوخة الحارثي، ومن قصص الحب والمعاناة إلى حكايات النضال والحرية.
كانت الرواية العربية بالنسبة لي رحلة في تفاصيل المجتمعات والشخصيات التي تنبض بالحياة في كل صفحة، إذ وجدت فيها سحر الشرق وتحدياته، وسمعت أصوات الأجيال المختلفة وهي تبحث عن هويتها في عالم سريع التغير. عرفت من خلالها ما معنى أن نكون هنا، نحمل أحلامنا وهمومنا وأغانينا، ونحاول أن نجد لأنفسنا مكانًا في هذا الكون الفسيح.
في النهاية، أدركت أن الأدب، سواء كان عربيًا أو عالميًا، مطبوعًا على الورق أو نابضًا في شاشات الألعاب، يظل ذلك الفضاء الساحر الذي نلتقي فيه بالآخر، ونتجدد من خلاله في كل قراءة. تظل الرواية، في كل أشكالها، قادرة على مد جسور خفية بين الثقافات والقلوب، تجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا في رحلتنا، وأننا جميعًا نسعى لفهم الحياة من خلال قصصنا المختلفة والمتشابكة.
Discussion about this post