الأشجار لا تمشي
كنّا أنا وعاتكة في السيّارة، نعافر من أجل اجتياز عراقيل الطّريق الوعرة حتّى وصلنا المعبّد عائدتين من زيارة أحد المنتزهات الواقعة في جوف غابة سجنان هروبا من روتين الحياة، وطلبا للرّاحة والاستجمام.
كان المنتزه مشروعا حديثا لشابّة تخرّجت منذ سنوات لكنّها لم تحظ بفرصة عمل في وطن طالما أنشدته صغيرة وكبيرة:” نموت نموت ويحيى الوطن .. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر “.. وقد أرادت وأرادت لكنّ القدر مااستجاب والوطن تكبّر واستعصى وأبى إلّا أن يتفصّى من دوره ويسخر من إرادتها. . فقرّرت الاستثمار في قطعة أرض على ملك والدها.. حكاية سمعناها من صاحبة المشروع فتأثرنا لها ولكنّنا شعرنا بالفخر والاعتزاز بتلك المرأة التي طوّعت الصّخر وألانت الحديد فأصبح كلّ شيء طوع إرادتها ورهن إشارة من طرف بنانها .
تبدّى لنا الطّريق كأفعى سوداء تتلوّى وسط الأشجار، عندها تنفّسنا الصّعداء وشعرنا بالطّمأنينة وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث .. أعربنا عن إعجابنا بإنجاز المرأة التونسيّة والرّيفيّة تحديدا، التي لا توقفها العراقيل ولا تحطّ من عزيمتها العقبات. لقد كان مشروعا صغيرا لكنّه ماانفكّ يكبر في حلم صاحبته حتّى أصبح ـــــ في الواقع ــــــ منتجعا ضخما يزوره عشّاق الطبيعة والهواء الطّلق.
قالت مرافقتيي” تعلّمت اليوم درسا” وقلت ” نعم .. أنا بدوري أرفع لها القبّعة، امرأة استثنائيّة بكلّ المعايير”.
صاحت عاتكة :
ــــــ انظري هناك!
ــــــ ماذا ؟
ــــــ انظري انظري هناك بين الأشجار !
ــــــ لا أرى شيئا غير الأشجار.
ــــــ نعم .. أقصد الأشجار..
ــــــ ما بها ؟
ــــــ الأشجار تمشي !
ــــــ وهل تمشي الأشجار ؟
ـــــ كيف تمشي الأشجار؟
ــــــ الأشجار لا تمشي!
ـــــــ تعالي نتأكّد.
قمنا بركن السيّارة على عجل ثمّ نزلنا . مشينا نحثّ الخطى، نتعثّر حينا وتَثْبُتُ خطانا حينا آخر , نتعب فنتوقّف لالتقاط أنفاسنا، حتّى اقتربنا من ضالّتنا فسمعنا ضحكات تنبعث من تحت الأغصان المتراكمة . قالت عاتكة ” أيّتها الأشجار الماشية، هل أنتنّ من الإنس أم مسكونات من الجان ؟”
وفي الحقيقة لم يكنّ أشجارا بل كومات حطب أخضر .. استدارت إلينا إحداهنّ فظهر وجه صغير تلفّه الأغصان حتّى تكاد تغطّيه ! اندهشت صديقتي واعتراني بعض الذّهول. ألقينا عليهنّ التّحيّة وقد رقّ القلب لحالهنّ وآلمنا المشهد المؤذي. لقد كانت الحمولة تستعصي على أقوى الرّجال، لو كان حمارا لكان يئنّ تحت ثقلها.
سألتهنّ صديقتي : لِمَ تحملن كلّ هذه الحمولة من الحطب؟
قالت إحداهنّ: لنعيش . وقالت الأخرى مفصّلة قول صديقتها: نحن نحتاج حطبا لنطهو كسرة الخبز التي نقتات عليها .
وأردفتُ: والرّجال .. ألا يساعدون؟
قالت إحداهن: كيف أسمح أن يحمل أخي رزمة الحطب؟ وقالت الأخرى: وهل يحمل الرّجال الحطب ؟ وقالت ثالثة: أحيانا يساعدني زوجي في بيع الخبز الذي أصنعه عندما يكون في حاجة إلى المال ويكون في عجلة من أمره .. لكنّه اعتاد أن ينتظرني لأصنع الخبز وأبيعه .. ثمّ أعطيه ثمنه، إنّه صبور.
قالت صديقتي : وماذا يفعل الرّجال بالنّقود؟
أجابت واحدة : يذهبون إلى المدينة لشراء ما يلزمهم من التّبغ فهم يدخّنون كثيرا، ويشترون بما تبقّى مستلزمات صنع الخبز من سميد وخميرة ووقود.
قفلنا عائدتين وقد أصابنا صيب غزير من الهزيمة والخذلان وخيّم علينا صمت مُطبق. وتذكّرت مثلا كانت جدّتي تردّده دائما ” النفس نفسك وأنت طبيبها وين تحطّها وين تصيبها “”
مفيدة بن علي/ تونس
Discussion about this post