﴿…..وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ……﴾ [البقرة: ١٠٢]
———–
خواطر بقلم: طارق حنفى –
مفكر وأديب مصري
————
قبل أن نستفيض في الحديث عن هذا الجزء من الآية الكريمة ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢]
تنويه
———–
يجب التنويه إلى أنني قد قمت بشرح الآية الكريمة
على عدة مقالات؛ فهي آية من أكثر آيات القرآن الكريم التي اختلف العلماء في تفسيرها وفهمها، ولم لا؟! وهي تجمع كل تلك الأصناف من المخلوقات معًا:
– طائفة من كهنة اليهود الذين ألقوا بكتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا كلام الكفر.
– شياطين كفرة يعلمون الناس السحر.
– ونبي ملك: وهبه الله ملك لن ينبغي لأحد من بعده.
– وملائكة معلمين.
وبشر: تعلموا علوم السحر لمحاربة السحرة، ومنهم
من كفر بعد علم .
كل هؤلاء قد جمعتهم آية واحدة باختلاف خلقتهم وطرق كلامهم وتفكيرهم وحججهم، مع الأخذ فى الاعتبار الامتداد الزمني الذى جرت فيه الأحداث، ومع التنبية على أنها ما زالت تحدث، فما زال الشياطين يعلمون الناس السحر وما زال الناس يتعلمونه!..
وفي هذا المقال – تحديدًا – سنتناول الجزء الكريم من الآية ﴿…..وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ……﴾
تمهيد
———–
يجب القول:
إن الآية الكريمة تتحدث ابتداءا عن طائفة من اليهود اتبعوا ما ادعته الشياطين – بهتانًا – على سيدنا سليمان – عليه السلام – وملكه، لقد ادعوا أن سيدنا سليمان – عليه السلام – قد أقام ملكه وسخر الجن والريح والطير بفعل السحر وليس بأمر الله، وأن السحر كان منهجه وشريعته؛ فتسابقت طائفة من اليهود لتتعلم السحر وألقت بالتوراة، بل إنهم قد عاملوا كتابهم معاملة الشيء المنبوذ!.
كما يجب الإشارة إلى بعض المعاني:
– القدرة والإرادة:
القُدْرَة لغة: هي القوة والاستطاعة..
والإِرَادَة لغة: هي مطلق القصد..
أما عن قدرة الله: فهي مطلقة تسع كل ما هو ممكن ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠]..
وإرادة الله: فإرادة مستمرة دائمة، تُخصص القدرة لحدوث أمر معين وفق علم الله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
– الضر والنفع: هي في الحقيقة واحدة من القضايا الشائكة؛ فقد يخلط البعض فيها بين أمرين:
الأمر الأول: اتحاد قدرة حادثة تظهر فجأة للوجود بمساعدة أسباب معينة، مع إرادة وقتية غير دائمة للفعل..
والثاني: اتحاد القدرة المطلقة (قدرة الله) التي تُظهر الفعل للوجود، مع الإرادة الدائمة (إرادة الله) التي توجه هذا الفعل وفق قضاء حكيم (القضاء) خبير لإحداث نفع أو ضر في وقت معين (القدر)..
إنه يخلط – في الحقيقة – بين خالق الأسباب والأسباب، بين الرب والمربوب، ومن ثم تكون النتيجة أن ينسبوا الضر والنفع لأسباب الله من دونه سبحانه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ). (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الخواطر
———–
والله أعلم نقول:
(وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ): إن كلمة “هم” هنا تشير إلى اجتماع
ثلاثي بنية إحداث ضُرٍ ما بين:
– الشياطين: الذين يعلمون السحرة السحر، وبتعليمهم السحر أعطوهم القدرة الحادثة..
– السَحرة: وهم أصحاب إرادة الضر المنقوصة، فهم مع
قدرتهم الحادثة على صنع السحر لا يستطيعون توجيهه
إلى شخص معين إلا بوجود كلمة السر، المفتاح الذي يفتح باب الشر على مصراعيه وهو “الإنسان”..
– الإنسان: ذلك الشخص الذي يقصد الساحر، ويدفع له المال ليصنع له سحرًا يضر به شخص آخر، والذي تملأ صدره الإرادة لإحداث ضرر معين، تغيير وتبديل حال الشخص الآخر؛ بسبب حقده عليه أو حسده إياه أو كراهيته له، أو أي سبب آخر..
فلا سبيل لأي مخلوق أن يخترق حجب مملكة الإنسان، وما يحمله من ملكوت الله في داخله، مع وجود الملائكة الحفظة، بل ويحدث فجوة في أسوار مملكته ينزح عبرها الشر إلى الداخل أفواجًا، إلا عن طريق إنسان مثله؛ بكرهه له أو حقده عليه أو باشتهائه إلى ما في يديه (وهي المرحلة الأولى في عمل السحر).
(بِهِ مِنْ أَحَد): فذلك الشخص الذي يقصد الساحر بنية عمل سحر، هو السبب في توجيه ذلك الضر إلى الشخص الآخر وربطه به وتسليطه عليه دون سواه عن طريق جند هذا الساحر وأدواته الذين يتربصون به ويحومون حوله؛ يتحينون الفرصة للانقضاض عليه (وهي المرحلة الثانية).
(إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه): إذن الله هو إرادة الله المبنية على علمه المحيط الذي وسع كل شيء وسبق حدوثه، وهو قدره الذي قضاه وفق حكمته، فيأذن بوقوع السحر أو لا يأذن..
فالسحر – بذاته – حتى لو نفذ إلى الجسم فهو كالڤيرس الذي قد تهزمه المناعة وتقتله، قد يهزمه ذكر الله وقرآنه، وقد يهزمه حسن الظن بالله حين يملأ القلب والنفس فيطرد كل ما سوى الله، قد تهزمه الملائكة الحفظة وجند الله، فهو لا يقع ويضر إلا بإذن الله..
وينفذ السحر إلى الجسم في لحظة حزن مرير يوصل صاحبه إلى القنوت من رحمة الله، وقد ينفذ في لحظة
فرح شديد أو نجاح عظيم يوصل صاحبه إلى ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: ٧٨]، أو في لحظة شهوة عالية تصل بصاحبها إلى نسيان الله تمامًا، وكأنما خرج الإيمان من قلبه.
(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ): ثم يعود الحديث في الآية الكريمة عن تلك الطائفة من اليهود الذين تركوا التوراة واتبعوا السحر، بل واتخذوه شرعة ومنهاجًا، وجميع السحرة الذين حذوا حذوهم في العموم..
إن هؤلاء جميعًا قد تعلموا ما يضرهم باستحضار الشياطين والجن -باستمرار- من حولهم فزادوهم تعبًا ونصبا، وبجلب كره الناس لهم ودعائهم عليهم، وبكفرهم وأخذهم بأسباب ورودهم النار، وبقضاء الله فيهم بعدم الفلاح (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ).
وفي النهاية:
(الساحر): لقد كفر السحرة باتخاذهم الشياطين أربابًا من دون الله، واتخاذهم السحر منهاجا وشرعة؛ فقد أعطوا القدرة المطلقة للسحر والشياطين من دون الله، وظنوا أنهم قادرون على فرض أقدارهم التي يصنعونها على قدر الله، وغاب عنهم أنهم في النهاية مجرد أسباب من أسباب حدوث الضر بإذن الله، غاب عنهم كما غاب عن إبليسهم – من قبل- أنهم جميعًا عين قدر الله!..
(والذي يذهب إلى الساحر): لعمل سحر لغيره مشرك بالله؛ فهو يجعل من الساحر شريكًا لله، يؤمن أنه يستطيع أن يظهر بعض الأفعال الحاصلة في الوجود وفق رغبته هو وهواه لا وفق إرادة الله..
(لكن المؤمن): لا يرى فاعل غير الله وأن القدرة الحادثة والأمور التي تبدوا متوقفة على الأسباب لا إرادة لها في الأفعال، وأن الله هو المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيه بالنفع والضر، فكله من الله وإلى الله وبالله وبإذن الله.
وصل اللهم وسلم وبارك على من ترك فينا من الأدعية
ما يحفظنا من الأذى والشر والأعمال والأسحار، من علمنا
الله على يديه معاني توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، محمد الصادق الأمين وعلى
آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
Discussion about this post