تكاثرت تعريفات “الثّقافة” حتّى صارت تدلّ على كلّ شيء، وما دلّ على كلّ شيء لم يعد يدلّ على شيء؛ فالدّلالة المفهوميّة حدٌّ وقيد، يمنع الكلمات من الذّوبان في اللامعنى.
“الثّقافة” ليست من عريق كلمات العربيّة فيما يراد لها من دلالات في عصرنا التّداوليّ، ولكنّ جذرها العريق عربيّاً يعود إلى الحذق والمهارة في رمي الرّماح وتسديد السّهام، والمجالدة بالسّيوف، وشدّة الحموضة، وهذه الجذور هي أشدّ ما تحتاجه “الثّقافة” و”المثقّفون” اليوم.
فـ”الثّقافة” مقاومة، وحذق ومهارة في رمي رماح الفكر والأدب، وتسديد سهام المعرفة، هي مجالدة ومخاصمة بسيوف معرفيّة، ثقافة حامضة، بل مرّة، مزعجة مقلقة مقاومة.
“الثّقافة” سلطة مقاومة، سلطة مزعجة مؤلمة، تقاوم سلطة “القاهرين” لصالح “المقهورين”، تؤلم “السّلطة الغاشمة”، وتعيد المفارقة والتّضادّ والتّناقض بين “الحقيقة” و”السّلطة”.
“الثّقافة” تقاوم الوضع الرّاهن، تعيد كلّ قضيّة إلى أوّلها وجذرها، ففلسطين أرض عربيّة محتلّة من عدو غاصب “محتلّ”، يجب تحريرها، وتحريرها هو “الممكن” المشروع الوحيد ثقافة وواقعاً.
“الثّقافة” و”المثقّف” كلمتان حذرتان حسّاستان لا تقبلان بأيّ تمييع؛ فلا وجود لـ”مثقّف السّلطة”، و”مثقّف خائن”، و”مثقّف عميل”؛ فالجمع بين “السّلطة” و”الخيانة” و”العمالة” من جهة، و”الثّقافة” من جهة أخرى تناقض صارخ، وعمالة وخيانة لـ”الثّقافة” و”المثقّف” مفهوماً ومصداقاً.
تنجح “سلطة الاستبداد والقهر” و”الاحتلال” بتواطؤ جاهلٍ غبيّ شجاع ومتعلّم ذكيّ جبان، وليس بـ”المثقّف”، ولا بـ”الثّقافة”؛ فليست الثّقافة أن تعرف شيئاً عن كلّ شيء، وليست نظاماً رمزيّاً معرفيّاً يعبّر عن الموجود، بل هي أن تعرف ما يجب عن كلّ شيء، ونظام رمزيّ معرفيّ يعبّر عمّا يجب أن يكون، وعمّا لا ينبغي أن يكون، ثقافة تستعيد “الحقيقة” من تدليس سلطة النّفوذ الماليّ والسّياسيّ إلى نفوذ الوعي الجمعيّ والنّوعيّ للجماعة والشّعب والأمّة.
“الثّقافة” توظيف لكلّ الرّأسمال الرّمزيّ للأمّة، من الأساطير و”الخرافات”، حتّى الحقائق العلميّة والمعادلات الرّياضيّة لصالح الأمّة والجماعة، هي انحياز صارخ، بل وقحٌ لا يداري ولا يداهن لوجود الأمّة، وتاريخها، وحاضرها، ومستقبلها.
“الثّقافة” اشتباك مع المرجعيّات والقواعد والقوانين، وليست مناورات في ألعاب نخضع لقوانينها الموضوعة من غيرنا الّذي لا يخفي انحيازه لنفسه، ولنفسه فقط.
ليست “الثّقافة” أن تفوز في لعبة شطرنج، بل أن تضع قوانينها، أن تقاوم مرجعيّتها، “الثّقافة” مجالدة وخصومة شطرنجيّة، يكون أوّل مَن يُضحّى به “ملك ووزير”؛ ليحيا ويعيش “الجنديّ”.
لم يأتِ “طوفان الأقصى” بجديد، ولم تكتشف مقاومة غزّة جديداً، بل أعادت تعريف العريق القديم الأصيل؛ نحن في معركة ومجالدة لا تستعيد –ببلاهة- المقولة الشّكسبيريّة “نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة”، بل تبعث فينا مقولة “نكون وسنكون ولا شيء غير أن نكون”؛ وكان هنا ليست فعلاً ناقصاً بل هي فعل تام بمعنى “الوجود”.
“الثّقافة” مؤلمة تعيد الألم الواجب للمعرفة والأخلاق والعمل، تتخلّص من أوهام “ما نستطيع وما لا نستطيع”، إلى آلام ما “يجب وما لا يجب”.
“المثّقف” في زماننا من ينجو من “الجيل الرّابع والخامس من الفاسدين”؛ فاسد صغير ينشأ في رعاية فاسد كبير، يعيش على منظومة الفساد، ولكنّه يستجيب لمتطلّبات العصر وممكنات فساده “العصريّة”!
“المثّقف” من يبدأ حكايته من “أوّلاً”، ولا يقع في حيلة من يبدأ من “ثانياً”، فكما يقول مريد البرغوثيّ:” من السّهل طمسُ الحقيقة بحيلة لغويّة بسيطة: ابدأ حكايتك من “ثانياً”، فيكفي أن تبدأ حكايتك من “ثانياً” لينقلب العالم: ينقلب “المظلوم” ظالماً، وينسى النّاس “الظّالم” أوّلاً”.
“الكيان الصّهيوني” كيان احتلال لا مشروعيّة لوجوده أوّلاً.
نحن العرب أمّة واحدة أوّلاً، ليس بالشّعر والشّعور واللّغة والتّاريخ والدّين وحسب، بل بضرورة الواقع، وحكم المنطق البارد، والواقعيّة بل “الانتهازيّة السّياسيّة والاقتصاديّة” كذلك.
Discussion about this post