حققت علوم الانسان والمجتمع طفرة معرفية كبرى في تاريخ المعرفة الإنسانية المعاصرة، ولقد كان ذلك نتيجة منطقية للثورات المعرفية السابقة والمتتالية التي عرفتها الحضارة الغربية، بداية بالثورة الدينية في القرن الخامس عشر من خلال الإصلاح الديني، والثورة العلمية الصناعية حيث تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة بشكل غير مسبوق، باعتماد النظرة الديكارتية القائمة على مبدأ مفاده: أن تعرف معناه أن تتأهب أكثر للسيطرة والتحكم في جميع الظواهر والمادية منها على الخصوص، وتزامن ذلك مع الثورات السياسية خاصة منها الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وغيرها من الثورات التي كرست منظومة حقوق الانسان وحررت العقل الإنساني من الوصايات المختلفة، وعجلت ببناء الدولة القومية الحديثة، وبلورة قيم المواطنة والحريات،إن العلوم الانسانية والاجتماعية الغربية جاءت كثورة فكرية او كردة فعل للأزمة السياسية الاجتماعية التي خلقها رجال الحكم والكنيسة هناك؛ لذا كانت هذه العلوم علمانية النشأة بمبدأ فصل ” الدين عن الدولة” وبعيدة عن القيم الدينية والأخلاقية، كما أنها نشأت بمحاكاة تامة للعلوم الطبيعية واقامت القطيعة الابستمولوجية مع الفكر السطحي الساذج والافكار المسبقة وكذلك مع التفسير الغير علمي كالتفسير الميتافيزيقي والاهوتي ، وقد أدى ذلك إلى تجزئة الظواهر الاجتماعية، ثم تحولت العلوم الاجتماعية الغربية إلى علوم قومية تخدم المصالح القومية لأصحابها.
ونتيجة لكل هذه التحولات الجذرية في الثقافة والمجتمع الغربي، ظهرت طفرة معرفية جديدة وهي الثورة في علوم الانسان والمجتمع والتي ساهمت في بناء معرفة جديدة بالإنسان والمجتمع متحررة من التصورات غير العلمية باعتماد أدوات جديدة في البحث العلمي قائمة بالدرجة الأولى على الوصف والتفسير والتنبؤ وملتزمة بالموضوعية والحياد، وهي العلوم أيضا التي واصلت تدشين مسلسل الإذلالات التي عرفها الانسان الحديث بداية بالإذلال الفلكي الكوبرنيكي نسبة إلى “نيكولاس كوبرنيكوس 1473-1543) والذي قلب التصور الأرسطي الذي هيمن على الوعي البشري لقرون طويلة رأسا على عقب، وذلك من خلال إثباته لنظرية مركزية الشمس بدل مركزية الأرض، وتلا ذلك الإذلال البيولوجي الذي قال به “تشارلز داروين 1809-1882 والذي ذهب من خلاله إلى القول بأن الانسان ليس أحسن من الحيوان بل انه حيوان تطور عبر التاريخ ليستقر على الصورة التي هو عليها اليوم، وأن الكائنات الحية عبر الزمان تنحدر من أسلاف مشتركة وتخضع لمبدأ واحد وهو الانتخاب الطبيعي، وهي الفكرة التي تتعارض مع ما تقره الأديان التي تقول بالتكريم الإلهي للإنسان وأفضلية الانسان وكرامته على باقي الحيوانات الأخرى، وجاء “سيغموند فرويد (1856-1939 ) ليضيف الإذلال السيكولوجي عندما أعاد الاعتبار لعالم اللاوعي وأن اللاشعور يشكل الأصل في النفس البشرية وأن الوعي مثله مثل الجزء الظاهر من الجبل الجليدي أما الجزء الأعظم المغمور منه فيشكل عالم اللاشعور.
ويحظى اليوم درس علوم الانسان والمجتمع في المجتمعات الغربية بأهمية كبيرة لفهم سيرورة الظواهر الإنسانية والاجتماعية ومحاولة تعقلها والتحكم فيها وأكثر من ذلك التنبؤ بالتحولات الاجتماعية ومآلاتها في المستقبل، كما لم تعد مجالات تلك العلوم منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض بل تعمل وفق منهجية جديدة وهي منهجية تداخل الاختصاصات وتكاملها، فالسوسيولوجيا وعلم النفس وعلم التاريخ والانتروبولوجيا والاقتصاد والسياسة والفلسفة والآداب واللغات والفنون، كلها تخصصات لها غرض واحد وهو بناء معرفة علمية صحيحة حول الانسان والمجتمع وحول أنماط التفكير وأنماط العيش الإنسانية في بعدها الفردي وفي بعدها الجماعي.
وعلى النقيض من ذلك تعاني علوم الانسان والمجتمع من تهميش واستخفاف كبيرين في مجتمعاتنا العربية، فهي في المتخيل الاجتماعي العام مضيعة للوقت ولم ترق بعد إلى مصاف العلوم ولا ترجى منها فائدة، وأكثر من ذلك فهي مجرد كلام لا طائل منه، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالموقف السياسي الرسمي من هذه العلوم، فكانت دائما هناك سيطرة السياسي على العلمي حيث كانت العلوم الانسانية و الاجتماعية منذ بدايتها هدفا لسيطرة السلطة السياسية التي سعت تحت شعار تاسيس علوم انسانية واجتماعية ملتزمة بقضايا المجتمع عموما الى بسط نفوذها على هذع الفروع من المعرفة في الواقع كان هذا جزء من مخطط عام يرمي الى السيطرة على الجامعة باعتبارها مؤسسة لإنتاج المعرفة ونشرها فالمعرفة قوة وخاصة المعرفة الاجتماعية والانسانية فاذا كانت العلوم الطبيعية اداة فعالة للسيطرة على الطبيعة، فان فالعلوم الاجتماعية والانسانية اداة فعالة في تحقيق السيطرة على الانسان والمجتمع وٌمن هذا فلا غرابة ان تسعى السلطة السياسية ان تسيطر على المؤسسات المنتجة للمعرفة لأن هذه السيطرة تحقق ادماج هذه المؤسسات في مشروع النظام القائم وجعلها ادوات خادمة لكسب الشرعية، وايضا كثيرا ما تميل السلط والحكومات في مجتمعاتنا عموما إلى سلب هذه التخصصات كل قيمة، لأن تلك السلط والحكومات هي سلط ريعية وغير شرعية وتفتقر لأبسط المبررات لوجودها ما عدا الثروة والقوة، وفي أحسن الأحوال هي سجينة النظرة التقنوية والعلموية للعالم، بمعنى أنها تعاني من شراسة النظرة التقنية التي تراهن على الحلول التقنية في انجاز المشروع التنموي والنهوض بالإنسان العربي، حيث تختصر مشكلات المواطن العربي في السكن والعمل والدخل المادي، على حساب مشكلات لا تقل أهمية وهي مشكلات الوعي والفكر والثقافة والأخلاق، كما أن علوم الانسان و المجتمع هي موضع ريب و انزعاج عند النخب السياسية العربية بما تشكله من وعي سياسي و رؤية نقدية فكرية و ثقافية في المجتمع و هو الوعي الذي يأخذ شكل المقاومة و الرفض للكثير من السياسات الرسمية العرجاء التي تخدم جماعات المصالح و عصب الحكم و تندرج أعمالها في أجندات القوى العالمية على حساب مصالح الشعب و الأمة ، و الدول التوتاليتارية في عمومها لا تشجع على التنمية الثقافية و على تراكم الوعي النقدي الصحيح لمواجهة التحديات المختلفة التي تعانيها الشعوب . إن الثقافة و الوعي الثقافي الذي تصنعه علوم الانسان و المجتمع في ما تقترحه من توضيحات و تفسيرات للظواهر الاجتماعية و الإنسانية ، و ما تفضحه من جوانب متعددة في وضاعة الأفكار و ما تشهر به من أوهام تكبل عقل و إرادة الانسان ، تجعلها شيئا غير مرغوب فيه على الإطلاق ، و تذكر بمقولة وزير الدعاية الألمانية في حكومة هتلر “جوزيف غوبلز ” المعبرة عن موقفه من الثقافة ” كلما سمعت كلمة ” ثقافة ” تحسست مسدسي ” .وحتى لا تظهر تلك السلط المتخلفة و غير الشرعية في صورة المعادية للثقافة فإنها تميل إلى إضفاء الطابع الفولكلوري و المناسباتي على حساب كل عمل ثقافي جاد .
إلى جانب المواقف السلبية التي أبانت عنها السلط الرسمية تجاه علوم الانسان و المجتمع ، نشير أيضا إلى طبيعة الأنماط الثقافية المهيمنة و التي تقوم على التفسير الخرافي و العامي للكثير من الظواهر الإنسانية ، و طغيان الخطاب الوعظي و الشعبوي لفئة واسعة من ” المتعالمين ” بلغة ” مالك بن نبي ” على حساب الخطاب العلمي ، مما يؤثر سلبا على تعميق وعي الناس الصحيح بأساليب حياتهم و رؤيتهم للعالم من حولهم و الارتقاء بوعيهم الجمالي و حسهم العملي و الأخلاقي ، و تجاوز مرحلة تفسير الواقع إلى مرحلة تغييره ، فليس مهما معرفة العالم و تفسيره فقط و إنما الأهم من ذلك هو تغييره و التحكم فيه ورسم مساراته بما يخدم مصلحة الانسان و يحفظ كرامته و يصون حريته ومازاد الطين بلا عدوانية مجتمعنا وانغلاقه ورفضه لان يكون موضوع دراسة فالافراد في مجتمعنا يرفضون ان يتم دراستهم او دراسة حالاتهم وهذا ماجعل العديد من المواضيع المتعلقة بالانسان او المجتمع مزالت طابوهات محرومة من النقاشات العلمية الجدية ، كما أن العلوم الإنسانية و الاجتماعية من منظور خطاب التأصيل هي علوم غربية حتى ان بعض المشايخ الشرقيين يعتبرون العلوم الانسانية والاجتماعية وعلم الاجتماع بصفة خاصة علوم كافرة لانه كما اشرنا سابقا ان نشاة هاته العلوم كانت بانفصالها او بقيامها بثورة على الفكر الديني والكنسي في اوروبا ويرون ان غرضها هو تغريب وعي الناس و إبعادهم عن مصادر ثقافتهم القومية و الدينية، و كل هذه الأحكام في نهاية المطاف لا تخدم علوم الانسان و المجتمع في ثقافتنا و لا تسمح لها بالمساهمة في مقاربة أسباب هشاشتنا و ضعفنا و تخلفنا، فمتى تعارض ديننا الحنيف مع العلم حتى نكفر العلوم؟.
كذلك سعت السياسة الاستعمارية في الجزائر الى ادماج المتفوقين في العلوم التقنية كالهندسة والطب واهمالها للعلوم الاجتماعية والانسانية كونها علوم نقدية تساهم في بناء الانسان وبناء المجتمعات ولكون هذا الامر لايساعد الاستعمار على البقاء لان العلوم الاجتماعية تنتج المناضل وتنتج المثقف العضوي وتنتج القائد القادر على اقامة ثورات فكرية من اجل التغيير وطرد الاستعمار هذا ماسبب نفور الطلبة من هذه الفروع واعطى اصحاب التخصصات التقنية نظرة متعالية عن اصحاب التخصصات الانسانيةوالاجتماعية وفي الواقع هذا الامر هو مخطط استعماري قديم ولكنه متداول الى يومنا،
إن القول بأن مجتمعاتنا العربية لا تعطي أهمية كبرى للعلوم الإنسانية والاجتماعية قول صحيح نلمس آثاره في هذه النظرة المترفعة التي يبديها أصحاب التخصصات العلمية على أصحاب التخصصات التي تّسمى – تجاوزا – أدبية ..وهذا الأمر ليس قصرا على المجتمعات العربية بل هو موجود وبدرجة اقل في بعض المجتمعات المتقدمة ، ولعل هذه النظرة هي التي دفعت بالفيلسوفة الأمريكية المعاصرة (مارثا كرافن نوسباوم Martha Nussbaum 1947 – ) إلى المطالبة بتبديل هذه النظرة إلى العلوم الإنسانية ، وهي أستاذة جامعية متخصصة في القانون وفي فلسفة الأخلاق في جامعة (شيكاغو) ولها مجموعة من المؤلفات منها [ ليس للربح 2015] يطرح سؤالا مهما في هذا العصر الذي طغت فيه النظرة المادية على كل جوانب الحياة ، و كأن معيار الفعل الأخلاقي أصبح كمية الربح المادي الذي يحققه ، من هنا جاء عنوان كتابها المذكور ، والسؤال الذي طرحته هو : لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات ؟
تـجـيب الفيلسوفة : ” تقدم الإنسانيات (الأدب والفلسفة والتاريخ. وعلم الاجتماع وووو…) مساهمات كبيرة في نوعية المواطنة السياسية إذ تنمي ثلاث قدرات حاسمة للمواطَنة الجيدة : الأولى التمحيص الذاتي السقراطي ، فاعلوم الانسان والمجتمع تعلّم التفكير النقدي والمهارة الحاسمة للمفاوضة والتحليل التأملي ؛ فيفهم الناس أسباب دعمهم لهذه السياسة أو تلك ، ويتكوّن لديهم الفضول من أجل فهم منطق الآخرين ، كما يتعلمون كيف يكشفون الحجج السيئة التي يستخدمها بعض رجال السياسة ، وتنمية القدرة على النقد هي مما يُكسب المواطن القدرة على التفريق بين الحجج الجيدة والحجج السيئة الأمر الذي يخلق معه مساحة للتفاوض الحقيقي في الساحات العامة الصاخبة جدا ، وتفضي – هذه القدرة – إلى أن يحترم المرء من يخالفونه في الرأي فلا ينظر إليهم كخصوم ، ولكن كبشر لديهم أسبابا لما يعتقدون…
أمـــا القدرة الثانية التي تُكسِبها الإنسانياتُ المواطنَة فهي قدرة الإحساس بالمواطنة العالمية من خلال الاطلاع على التاريخ العالمي وتاريخ كل أمة من الأمم رغم اختلافه عن الأمم الأخرى ، ولكون كل الأمم تسعى إلى تحقيق الرفاه والتقدم . أما القدرة الثالثة فهي أن (الإنسانيات) والأدب والفنون خاصة تنمي الخيال ، والشعور بالآخر المختلف عنه .مما يجعل المرء قادرا على أن يضع نفسه مكان الآخر ليتسنى له فهمه ..
يـمـكـن تنمية هذه القدرات الثلاثة منذ المرحلة الابتدائية فالثانوية ، وتبقى مرحلة التعليم الجامعي مهمة جدا لأن الشبان الجامعيين يكونون على وشك أن يصبحوا ناخبين و مواطنين فاعلين ، لذا نرى أنه من الضروري أن يدرس جميع الطلبة المواد الإنسانية مهما كان تخصصهم ، وهذا الأمر معمول به في الولايات المتحدة و سكوتلندا وكوريا الجنوبية والجامعات اليسوعية ، لكن أغلب الجامعات في أوروبا و آسيا و أفريقيا تطبق نظام التخصص في جامعاتها …” .
عـــن مشكلة التطرف التي تعرفها البشرية منذ زمن بعيد تقترح الفيلسوفة : ” جعل التعليم في كل المراحل واسعا وفضفاضا بمعنى أن تشجع جميع الدول – وبشكل رئيسي – السعيَ إلى تعليم موادَّ ذات مدى واسع في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي ، وحتى وإن كان التلاميذ والطلبة يتعلمون أمورا تقنية ، فعليهم في الوقت ذاته أن يتعلموا التفكير النقدي ، أما في المرحلة الجامعية ، فيجب أن يكون لجميع الطلبة مقرراتٌ مشتركة تهيئهم للمواطنة والحياة المشتركة مثلما يفعل تخصصهم الرئيسي ” .
إن علوم الإنسان و المجتمع ليست ترفا فكريا أو صيحات معرفية مزيفة أو إيديولوجيات مخربة ، بقدر ما هي طرق في البحث الاجتماعي و مناهج في سبر أغوار الذات الإنسانية و فهم أحوالها في الماضي و الحاضر و اقتراح حلول لأزماتها ، و جهد نظري رصين في الإحاطة بالشروط المادية للحياة الاجتماعية و تركيز النظر في الاجتهادات البشرية بغرض تعقل الوضع الإنساني، و من هذه الزاوية فهي لا تقل أهمية عن العلوم المادية و التكنولوجية ، لأنها تتخذ من الانسان موضوعا لها ، و بناء على كل ما سبق فإنه لا أمل في النهوض بواقعنا الثقافي و الحضاري بدون تدخل علوم الانسان و المجتمع أو ” علوم الروح ” بلغة الألمان في إنتاج و بناء المعنى و وضع منظومات معيارية توجه الفعاليات الإنسانية المختلفة نحو الخير و التقدم و العدالة و إضفاء الطابع الإنساني على العالم .
Discussion about this post