من الدولة إلى الإقليم.. ثورة جيوبوليتيكية
كتب د/بوخالفة كريم_الجزائر🇩🇿
لمن يريد أن يعرف جيدا التوازنات الجيوسياسية في العالم بأسره فليترك الحسابات الدولية الثنائية ولينظر للأقاليم في حد ذاتها.
إن العالم اليوم صارت تشكله الأقاليم والاتحادات والتكتلات أكثر مما تشكله الدول منفردة مهما بلغت قوتها. ويبدو أن المستقبل عن قريب سيكون للاتحادات وليس للبلدان. بل وقد نشهد ثورة نظرية في العلوم السياسية تتحول من (الدولة كوحدة تحليل) إلى (الإقليم كوحدة تحليل). أين أصبح الوعي بالانتساب الجيوسياسي أكثر ارتفاعا وأهمية. وهنا سيبدو من المؤسف جدا -بل ومن المثير للسخرية- أن نسمع خطابات ونداءات الفكر الانفصالي والتجزيئي و(الذرّي) في أي مكان بالعالم، حيث سيتصادم مع أهم حقيقة مطروحة بقوة اليوم وهي: “في الاتحاد قوة”.
بإمكاننا تقسيم العالَم إلى 18 إقليما أساسيا، وهذه الأقاليم تحتضن دولا متباينة في الوزن والقوة، فبإمكاننا إذن رصد مستقبل التوازنات الجيوسياسية في العالم من خلال رصد التوازنات داخل الأقاليم أولا. وهذا لأن الإقليم يؤثر ويتأثر بغيره على نطاق واسع جدا قد تشمل رقعة تأثيره أقاليم وقارات أخرى.
وهذه لائحة بأسماء أهم الأقاليم التي يمكن اعتبارها كقطع الأحجية التي تشكل خارطة العالم:
– “إقليم آسيا الوسطى، جنوب آسيا، جنوب شرق آسيا، شرق آسيا، الشرق الأوسط، شمال إفريقيا، الإقليم المغاربي، إقليم الاتحاد الأوروبي، إقليم القوقاز، إقليم اسكندنافيا، إقليم البلطيق، إقليم أوروبا الشرقية والبلقان، شرق إفريقيا، غرب إفريقيا.. إقليم إفريقيا الوسطى، إقليم جنوب إفريقيا، أمريكا الشمالية، أمريكا الجنوبية”.
إن دراسة جغرافية كل إقليم على حدة وكتلته الديموغرافية مع تعداده العسكري وإجمالي ناتجه المحلي، سيشكل لا محالة صورة عالية الدقة على التوازنات الإقليمية مما يسهّل رصد العلاقات الدولية في تحولاتها المختلفة.
إن الدول في هذا العصر الذي ارتفع فيه (الاعتماد المتبادل) والشعور بالتهديد من طرف ثنائية (القوة والأمن) مع المسار الحرج للعولمة وتأثيرها على الدول في سيادتها و(أمنها المجتمعي).. قد حفز الفكر الاستراتيجي لإيجاد سبل أوسع من أجل تأمين السيادة من جهة دون المساس بالمصالح المعقدة من جهة أخرى، وتحقيق التفرد والتميز الهوياتي والثقافي للمجتمع من جهة دون الانغلاق على العالم من جهة أخرى أيضا.. ومحاول رفع قدرات الردع العسكري من جهة دون التورط في التوجهات العدوانية التي تهدد الآخر وتثير ردود أفعاله غير المتوقعة من جهة أخرى كذلك.. هذه الأمور كلها تضطر الدولة حاليا إلى التفكير والعمل خارج حدودها السياسية، إذ أن بناء الاتحاديات والتكتلات الإقليمية التي تتمتع بخصائص بشرية وجغرافية وثقافية مشتركة، يقدم للدولة فضاء أوسع وأكثر أمنا، فتكون مثلا ثقافتها محمية بواسطة اتحادها مع الثقافات المشتركة معها، ويصبح أمنها أقوى بتنسيق جيشها لجهوده مع الجيوش المتحالفة معها.. ويكون اقتصادها أكثر تنوعا وازدهارا بفتح باب الحرية والتبادل التجاريين في إقليم يضمن مصلحتها.. وهكذا دواليك.
فانطلاقا مما سبق إذن يمكن القول أن المؤشرات جميعها (وبالأخص الاقتصادية والأمنية والاجتماعية) تشير إلى أن التحول الجيوبوليتيكي المعاصر يفرض على الدولة أن تتحول من مجرد (كيان قُطرِي) إلى (فضاء إقليمي).
Discussion about this post