كتب …. بوخالفة كريم …. باحث في علم الاجتماع … الجزائر
يعتبر القرن الواحد و العشرين قرناً مفصلياً في قضية التلاعب بالوعي الاجتماعي، وقد تبلور علم اشتغل على هذه المسألة هو علم النفس الاجتماعي الذي وضع أحد حجارة الزاوية فيه غوستاف لوبون في تعاليمه عن “الحشد”، ومن ثم تطورت الممارسة في مجال تشكيل الحشود، وتحويل جماهير الناس الكبيرة إلى حشد، والتلاعب به.
وظهرت منظمات قادرة على إخراج مسرحيات سياسية في هيئة أعمال ومناظر جماهيرية، وفي هيئة أعمال تحرض على الدموية، ما كان تخيل أبعادها من قبل، وصار استخدام تكنولوجيا “المسرحية السياسية” أسلوباً عاماً للاستيلاء على السلطة؛ إن تكنولوجيا التلاعب بالوعي المعاصرة قادرة على أن تدمر في الإنسان المعرفة التي حصل عليها من التجربة التاريخية الواقعية، ويحل محلها معرفة مصممةإصطناعياً من قبل المخرجين.
التلاعب بالوعي هو ناقوس خطر اقره الباحث الروسي سيرجي قرة مورزا في كتابه «التلاعب بالوعي» حيث يركّز العمل على دور وسائل الإعلام في قولبة الوعي وتوجيهه وسلبه «المقدرة على الإدراك النقدي.
فالوسائل المتطورة مع الاهداف غير الواضحة هي السمة المميزة لزماننا حيث ان التلاعب لم يعد عنفا بل إغراء فالاشخاص يَبدون وكانهم يرغبون أن يغرر بهم وهو وسيلة للهيمنه عبر التأثير الروحي في الناس من خلال برمجة سلوكهم.
نحن نعيش اليوم عصراً يفقد الانسان فيه نفسه ، وفي عصر مليئ بالتناقضات والصراعات الأيديولوجية والثقافية فقد الانسان جمالية وحقيقة الاشياء ، بسبب التلاعب بالوعي عن طريق الاعلام المضلل والاهداف السياسية.
وجعل الأشياء التافهة تعلو على القيم الاخلاقية ، وجعل المجتمع عبارة عن حشد ليس له قيم اجتماعية وثقافية تحميه من الفساد ، وكما قال نيتشه الفيلسوف الالماني (حين يقف مائة شخص بعضهم قرب بعض يفقد كل منهم إدراكه ويحصل على إدراك ما اخر)،وثقافة الحشد تعتمد على العاطفة وتحريك المشاعر وتسيرها حسب الاهداف المرسومة لها بدون ان يشعر بذلك.
من هذه الأشياء التي تفقد قيمة الانسان تغير المفاهيم الاخلاقية والدينية واستبدالها باشياء غير أخلاقية ومنها:-
جعل الدعارة والتعري للمرأة حضارة والتمسك بالعفة رجعية ضمن منطق حقوق المرأة ، والمثلية حرية شخصية ،واعتبار الدين من الفولكلور ولايتناسب مع الحداثة وجعل الالحاد في قمة الحداثة.
ونتيجة هذا التخبط فقد الفواعل الاجتماعيين دورهم كرجال الدين والسياسيين والنخب المثقفة ، فرجل الدين كان هو الملهم للمجتمع في أي دور يمس ثقافته وتقاليده و اليوم ركن الى صومعته بين التراتيل والتسبيح تاركاً امور الرعية الى شياطين الانس ،والسياسي فقد وطنيته واصبح عميل ، والنخب المثقفة التي كانت تنطق بصوت الشعب ومبادئه انقلبت الى جهة تساند الحكام من اجل مصالحها الشخصية ،والصحافة الى جهة تميل الى خداع المجتمع وتزييف الحقائق
وهكذا يفقد الإنسان قيمة ومعنى الأشياء إلى أن أصبح آلة يسيره الإعلام المضلل، ومن الواضح أن التلاعب بالوعي يظهر كوسيلة للسلطة بصرف النظر عن طبيعتها للتأثير السلبي في المجتمعات الديمقراطية أو الدكتاتورية الشمولية، ويصبح التلاعب بالوعي وسيلة للهيمنة النفسية على الناس عبر برمجة سلوكهم، والتلاعب يعمل على تغيير آراء المواطنين بإتجاه يخدم السلطة وأهدافها.
ففي المجتمعات الديمقراطية ، إن المساواة أمام القانون ليست هي بالضبط المساواة أمام الحقيقية الحياتية، والتجربة منذ زمن (ماكسمليان دي روبسبير) تثبت ذلك، فالخوف من الفقراء هو الناظم في ظل الملكية الخاصة، فهناك عدم توازن شديد لايمكن الحفاظ عليه إلا بتدخل السلطة السياسية، وعليه تستخدم النظم الديمقراطية المؤسسات والقانون المفصل لفرض الشرعية والانتخابات وصناديق الاقتراع، ولكن لا يصل إلى السلطة إلا مالك رأس المال وفق آلية تلك اللعبة الديمقراطية.
في النظم الدكتاتورية الشمولية المسألة تختلف فالتوازن يفرض تحت ستار مؤسسات شكلية الجوهر والقانون التفصيلي على قدر عباءة الحاكم، تقليداً للغرب وبوسائل قوى الأمن في الدولة الأمنية، التي لا تعير القانون أي اعتبار ما أمكن وما دام باستطاعتها فعل التمويه وإيهامنا بذلك، وعندما تقع الواقعة ويصل الصراع على السلطة إلى ضفاف لم تعد تنفع تلك الأساليب المقنعة فتحل الأوامر القسرية وبشكل واضح دون مكياج وبغير أقنعة، فالعنف والقهر والقمع والهيمنة والإكراه الفظ هو وسيلة المستبد فهو (يأمر ولا يتلاعب)، هذه هي حقيقة تلك الأنظمة التي سطرها التاريخ الغارق بالقدم والطافي على السطح في أيامنا هذه.
ومن بين اهم اليات التّلاعب بالوعي مايلي:
من خطورة التلاعب بالوعي والعقول بيان ان الإنسان محدود القدرات والإمكانيات وان الوراثة والظروف تلعبان دوراً مهما في حياة الإنسان وهذا يعني بأن الإنسان عاجز أمام تلك الوقائع التي يتم تسويقها على انها حقائق وهي ليست كذلك.
الصورة , الدراما و التلاعب بالوعي
“….الأعمال الدرامية مصنوعة بمواصفات خاصة، تهدف إلـي تحقيق المتعة البصرية، وتحييد الوعي كخطوة أولى تمهيدا لاستمالته في خطوة لاحقة ، وهي تقوم علـى حبكات يتم نسجها بعناية في موضوعات شديدة الإثارة . ويحرص أصحابها على توظيف كل الخبرات والوسائل الفنية والتكنولوجية، وكل ما يعمل على إقناع البصر ودغدغة الحواس ، والتلاعب بالعواطف ، وتغييب الوعي في آن واحد…..”
الخوف هو أحدُ أقوى الأدوات التي تمتلكها النّخب المهيمنة، لإحكام سيطرتها على الشعوب. التّلاعب بعقول الجماهير وبثّ الخوف في نفوسهم تمهيدًا لتطويعهم.
قال أرسطو: « الحرُّ حقًا، هو من تغلّب على مخاوفه»، من هنا نفهم سعي النّخبة الحاكمة لإبقاء الجمهور في حالة ذعرٍ دائمة بهدف استعبادهم؛ فمن المستحيل السّيطرة على الأشخاص غير الخائفين والسّاذجين.
المدرسة تعلّمنا ما يجب أن نفكر فيه، وليس كيفية تطوير تفكيرنا. إذا فكرنا بطرق مختلفة عن زملائنا في الصّف، فسيخبرنا المعلمون أنّنا طلاب سيئون. إنّهم يجبروننا على التّنازل عن أفكارنا للتّخلص من المشاكل، يعلّموننا أن نكون مبرمجين.
الخوف من عدم انتخاب المرشّح المناسب، يدفع النّاس إلى التّصويت لصالح المرشح السّيء متناسين أنّ أهون الشرّين هو شرٌ أيضًا. بينما يتولى الإعلاميون مهمّة ترويع النّاس لضمان اختيارهم ”لأهون الشرّين“.
الخوف هو سلاح المتلاعبين الكبار، بواسطته يمكنهم قيادة الشّعوب وإرغامها على القبول بالأمر الواقع بغضّ النّظر عن كونه غير منطقي. كل ذلك يحدث برعاية وسائل الإعلام، خادم الدولة التابع للحكومة، التي تمتهن تضخيم هذا الخوف.
الطاعة هي مفتاح لعبة السّيطرة.
والجبناء هم عماد مملكة الخوف، فالقرار الذي تتخذه بدافع الخوف لا يجعلك شجاعًا بل خاضعًا ومطيعًا.
عليك أن تدرك أنّ هذه الحياة ليست كلّ ما أنت عليه، لكنّها كل ما تعلّمت أو أُرغمت على تصديقه والقبول به. ولا تنسَ أنّك تسير نحو العتمة وأنت تدّعي أنّك تبحث عن الشّمس.
Discussion about this post