ذات لحظة شعريّة يشتغل حسّ الشّاعر في بؤرة الذأكرةالمتشظيّة في وجعنا العربي فتزخر كلّ التّفاصيل بروائحها وأمكنتها وخيباتها …وقصيد الحال “مرثية جديدة في قرطبة ” للشّاعر التونسي نورالدين القاسمي متح ممكناته الشعرية فيها من جرح لم يندمل …من حسرة جاثمة على قلب كلّ عربيّ أبيّ….سقوط قرطبة العظيمة الخالدة التي أضحت فاجعة أليمة في الوجدان العربي لم نتمكن من محوها رغم السنين الطوال عليها
مرثية جديدة في قرطبة التي رثاها أمير الشعراء بقصية عصماء استحضر منها هذه الأبيات
فدع الزمان يصوغ في عرصاتهم ….. نورا تكاد له القلوب تنور
فلمثل قرطبة يقل بكاء من ………… يبكي بعين دمعها متفجر
قصيد طويل أردت أن أقتصر على شواهد نصيّة منه جاءت نابضة بكيمياء لغة الوجع والحسرة
وقد استهلّه الشّاعر بمقطع يقول فيه
لم يكن من مدى بين أحجارها والسّماء
غير أسئلة جهْمة وغبار ردائي
لم يكن من نديم سوى حلم تناثر
الى أن يقول
ايه يا ظبي البراري اليتيم …
فالعلامات اللغويّة في فضاء المقطع النصّي الاول تجيء كأبعاد ذهنيّة أكثر منها أبعاد ماديةّ ملموسة حتى كأنّهاا إنبائيّة بما تضمنته من قوّةةتعبيريّة تكشف عن الحالة الشّعورىةّ التي انتابت الشاعروهو يستحضر قرطبة الشاهقة بمعمارها وبراعته وتفوّقه المميّز لكنّه لا يجد غير أسئلة جهمة ونعت الأسئلة بالجهْمة يفيد ثقلها وضخامتها أمّا قوله و’غبار ردائي” فهي اشارة نبيهة لاصطبلات قرطبة وخيلها الأصيل الذي لم تأتيه غير أصداء غبار لفرسان فلا صليل لحوافر الخيل وصهيلها .
فوهج العبارت لافح مترع بالذّكرى
معبّر عن فجيعة لم تبق منها آثارها وشواهد ها غير غبار رداء
ثم يلوذ بعبارة ايه”وهي عبارة تستعمل عادة عندما يكتم الصّمت وجع الحرف …فتجيئ ملء الفم معبّرة دالّة
يقول
ايه ظبي البراري اليتيم دمُك الجمر يتبعني
والمدائن كالنّساء ظباء منفلتة في الفضاء الفسيح تلهم الشاعر فيتغزل بها لما تحمله من صفات الجمال والتّناسق.
وللظّابي صفات لا تنفى مهما كانت الحال فهي قائمة تنير الشجن والفاجعة..
فباطن الوصف لمدينة قرطبة وقصورها الشاهقة ومعمارها ففي “ظبي البراري”ما يشحذ الذأكرة لتنهل من مجالات رحبة ذات شفرات تستدعي التّفكيك …
كمّا توفّق الشّاعر في هذا النّص الشعري الى ابراز الصّورة المؤلمة وقد استعمل ضمن سياقات شعريّة لغة الألم والدّم كقوله
الطريق يئن…الشرفات انين وورود..مسجدها سيد…حين بادرته بالسلام..نحنى وتلالافي شفتيه غبار الكلام….نواح الحرف بين الحجر..هل اسميك فاتحة ام ختاما..”
وهي مفردات تغري المتلقي باستنطاقها…وهي تشكّل داخل جسد النّص وعلى امتداده مرثية تسحب المتلقي الى ما طال قرطبة من خراب ودمار…
كما جاء لعبارتي “النديم” والأقداح ” حفر في متون شعرنا الجاهلي القديم الذي لاذ فيه الشعراء بالنّديم والأقداح كنموذج لامتزاج الروائج بفصاحة الكلام فضلا عن اغراضهم في المدح الغزل الرثاء….وقد قال فيه أبونواس
تَــعَـلَّل بِـالمُـدامِ مَـعَ النَـديـمِ ….فَـفـيـهِ الرَواحُ مِـن كُرَبِ الغُمومِ
ويقول الشاعر نورالدين القاسمي
أيّها الأشيب المدْلهّم الخطى
جسدي طلل أين أقداحه؟
وندْماه …أين؟
لم يكن غير راحلتي
فهل هواه الممضّ هواي
ذي بلاد تأوي إليّ
تحدّثني عن جدائلها
وأحدّثها عن قراي
نديمي هذا الحنين القديم
أيفضي الطريق الى بلد ضائع
تساؤلات وتسآل ولغة شعرية تضمر معان درامية تحتشد كلها في اجساس مرهف لأحلام مهدورة مصهورة بانكسارات جمّة ..
ينهي الشاعر نصه بالقول
قلت للحلم يا سيّدي
للقصيد يازهرة الرّوح
للحزن يا ضجّة الأتربة
هل أسميك فاتحة
أم ختاما
أسميك بيروت أم قرطبة؟
تسلسل زمنيّ مقيت تؤشره خيبات وانهيارات وتداعيات لأوطاننا العربيّة
يتسّع الجرح ..وساعة البكاء تقود الى ساحة الرّثاء…
وأختم تهويمتي في هذا النّص الشعريّ لأاقول
االشاعر نورالدين القاسمي يتميّز عن غيره في بناء القصيد ذي النّفس الطويل بما يشعّ عليها طابع التّأمّل والتّمعّن تطلّعا لفهم أعمق وهوشاعر يشتغل بأناقة وتأنّ فلا يحسّ متلقيها بترهّل أو انخرام للوحدة النصيّة وتلازمها رغم طول النّص الشّعريّ..
كلّ التّوفيق شاعرنا الخلوق المتميّز
منوبية الغضباني تونس
Discussion about this post