خطاء وخطايا” للونا قصير
وأسئلة معلّقة في فضاء الرواية
محسن أ. يمّين
تَفاخَر د. ه. لورنس فيما مضى، بمهنته كروائيّ بقوله: “بما أنّني روائيّ، فإنّني أَعُدُّ نَفسي أسمى درجةً من القدّيس والعالم والفيلسوف والشاعر. فالرواية هي كتاب الحياة المُشعّ الوحيد”.
وقارئ هذه الرواية بالذات التي جَمَعَتْنا اليوم: رواية “أخطاء وخطایا”، في “رابطة الجامعيّين في الشمال”، هذه الرابطة الزاهرة، والصادرة في ٢٠٧ صفحات، من القطع الوسط، عن “فواصل للنشر”، لم يكن يحتاج إلى الإشارة التي أنهت با لونا قصیر تقديمها لكتابها بالقول: “إنّها رواية واقعيّة، إجتماعيّة، إنسانيّة.” لأنّها، بكلّ بساطة، تُقدّم لنا، من دفّتها إلى الدفّة، عالماً يُشبه عالمنا المألوف، بأحداثه، وشخصيّاته، وعقدته.
فأبطال الرواية هم أناس عاديّين مثلنا، في حياتهم ما في حياتنا من تعقیدات، ونوازع، ومشاعر. والأماكن تبدو عاديّة، حتّى ولو كانت مُتخيّلة. فجوانا، ومارغريت، وفيليب، وسعيد، وجابر، ونايا، وسواهم من شخصيّات الرواية يُشبهون، في كثير أم قليل، نماذج في حياتنا اليوميّة. وإن كانت الرواية إستطاعت أن تجعلنا نفكّر جدّيًّا حول هذا العالم الواقعيّ المُرتسمة خطوطه بين ثنايا الصفحات، بخلقها لشخصيّات كشخصيّة أيّوب الفصاميّة، على خلفيّة قد تكون مختلفة عمّا نتوقّعه في حياتنا اليوميّة، وفي هذا الواقع. شخصيّة، إذا كانت بتردّي حالتها المرضيّة الواصلة إلى حدّ النوبات الهستيريّة المستهدفة للأمّ، أي مارغريت، المكرّسة حياتها لخدمته، التي لا تشعر بالأمان عندما تخلد إلى النوم إلّا إذا أقفلت باب غرفتها، خوفاً من إبنها. صاحب هذه الشخصيّة التي لا أدري إذا كانت تحملنا على التفكير بشيء من المغالاة، أو بسلوك من نسج الخيال، فإنّ جشع شقيقته كاميليا، الميسورة أساساً، المتّهمة بإرتكاب خيانتين مزدوجتين :
سرقة مال شقيقها خلال وجودهما في كولومبيا، ما تسبّب بإبتلائه بهذا المرض، بعد شعوره، بأنّ تعبه ذهب سُدى، وإخلالها بالأمانة تجاه والدتها، بعدما إستدرجتها إلى توقيع وكالة تسمح ببيع كلّ ما تملك من عقارات، تمهيداً لتقاسم مفترض للحصص بين الأشقّاء، بُغية إستئثارها بكامل الميراث. هذا الجشع الذي أنهى، بصفعة من الوالدة المستحقّة هي إسم “أيّوب”، لطول معاناتها وصبرها. أخرجت كاميليا من حياتها مُظهِراً إلى أيّ حدّ يمكن أن يبلغه المال بمفعوله التدميريّ لأكثر العلاقات حميميّة، وللصلات الرحميّة. المال الكفيل بإستكشاف إحساسنا بالواقع، وبتوجيه إنتباه القارئ نحو العالم الواقعيّ حين يذهب بالقساوة إلى حدّها الأقصى، ويُجيز لكاميليا أن تستغلّ الأحداث المأساويّة التي عصفت بحياة الأسرة، وأحاطت وفاة شقيقها سمير بالغموض، وعلامات الإستفهام، لزيادة تمزّقات العائلة، وإتّخاذ ما حَدَثَ كمبرّر سوّغت لنفسها، بناءً عليه، تسجيل الشقّة، وقطعة الأرض، بإسمها. برغم لمعانها في مجال عملها، وإقتدارها الماليّ.
ومن لا يكتفي بكلّ ذلك برهاناً على مدى واقعيّة الرواية، فدونه العمل الأدبيّ بأكمله الذي ضمّنته لونا قصير التغطية الأكثر إتّساعاً. وتمثيلاً للحياة المعيشيّة والإجتماعيّة اللبنانيّة في قلب الهاوية الراهنة.
حياة غادرتها جوانا، طوعاً، من باب الهجرة للعمل في البحرين، وعادت إليها، قسراً، من شبّاك تفقّد إبنها جاد الساكن على مقربة من مرفأ بيروت بعد إنفجار 4 آب ٢٠٢٠، الخرافيّ السوء، بحجمه التدميريّ الواسع النطاق، للبشر، والحجر، وللعلاقات الميثاقيّة.
فلونا، بعملها الجديد، تقتفي أثر الروائيّين الذين مَهّدوا الطريق لسلوك الوجهة الواقعيّة في آثارهم الأدبيّة، وبذلوا جهوداً للتأكّد من أنّ التفاصيل الواقعيّة في أعمالهم صحيحة، على غرار بلزاك، وستندال، وزولا، بحسب ما أورده “جيريمي هوثورن” في مؤلّفه “مدخل لدراسة الرواية” (دار الشؤون الثقافيّة العامّة، بغداد، ص. ٤٢)، أيّ أنّها قابلة للتّدقيق، والمراجعة، إزاء الواقع الخارجيّ بوساطة البحوث التجربيّة. فالواقعيّة، بصلتها بهؤلاء الكتّاب، هي مصطلح يُشير إلى مجموعة من الروائيّين، كما تُشير، في الوقت نفسه، إلى طريقة خاصّة في الإنشاء. وسلاسة الأسلوب طَوْعَ بِنان روائيّتنا.
فلونا قصير من ورثة أولئك الواقعيّين.
وعُدَّ معي على أصابع يديْك هذه القائمة التي لا تتشكّل إلّا في المجتمعات المنهارة، أسوة بمجتمعنا، كما تنهار أساسات البيوت أثناء الهزّات الأرضيّة، والزلازل، التي نعيش رُعبها، في هذه الآونة: إنفجار المرفأ المارّ ذكره، وهو يشكّل بؤرة إهتمام جوانا، البطلة الأساسيّة في الرواية، الحرب التي سرى في أوهامنا أنّها إنتهت، فإذا بها تستمرّ، إنّما على نحوٍ مختلفٍ، الهجرة، الأزمة المعيشيّة الطاحنة، فقدان الأدوية، المصارف التي سرقت أموال الشعب، غياب الدولة التي لا تحمي شعبها من الفساد والسرقة، الزيجات التي أضحت حبراً على ورق، تخلّي الأبناء عن أمّهاتهم، المسنّون الذين يعيشون وحدتهم القاتلة، وهم يجترّون ذكريات الزمن الجميل، وكلّ ما فقدوه، بحزن وحسرة، ويبدون، بحسب تعبير لونا كالفصل الخامس الذي لا وجود له على أرض الواقع. شابكةً الخاصّ بالعام في سردها الواقعيّ، وتصوّرها للشخصيّات والأفعال الممثّلة للحياة الحقيقيّة.
في ظلام المرحلة التي ترسمها الرواية في أذهان مقلّبيها تبدو جوانا وكأنّها ضوء الرواية. وحين يخفت نورها، أو ينعس، تبدو جارتها مارغريت، برغم كونها في عقدِها العاشر، وكأنّها شاحنتها بالطاقة، والأمل، وبالإصرار على مُجابهة الصعاب، وعدم الإستسلام للقدر وللبحث الدائم عن عريس. “لن تقع النجوم لمواساتنا، قالت لها مارغريت، لكنّنا، لو حدّقنا إليها، سنفهم لماذا إمتلأت السماء بها”. وجوانا ستردّ التحيّة لمارغريت بأحسن، حين تكذب عليها كذبتها البيضاء، وهي تُعرّب لها ما سطّره إلكترونيًّا، بالإنكليزيّة، إبنها ألبير. راسمةً بذلك على ثغرها إبتسامةً لم ترَ على شفتيها شبيهاً لها من قبل.
وجوانا هي الخيط الكرونولوجيّ، والسبب، والنتيجة في الرواية التي يُعتبر إختفاء حبيبها فيليب عُقدتها. وتتبّع خطاها، وهي الجميلة حتّى لو بقميصٍ زهريّ مُستعار، ينسج الحبكة. وطلاقها، وهجرة إبنتَيْها، وإستماتتها بحثاً عن فرصة عمل لنجلها جاد، كلّ ذلك لن يحول دون حبّها للحياه لإكمال مسيرتها، ودون التفتيش دوماً عن منفذ جديدٍ أمام كلّ مشكلة تعترض طريقها، ودون إستمرار تعلّقها، بحبيبها القديم – الجديد فيليب، المطلّق هو الآخر، الذي ستساعدها صدیقتها نايا على ترتيب سيناريو إجتماعهما إلى الأبد، بالحبّ المجدّد للمشاعر، تجديد الفصول لجمالاتها. لتنحلّ بذلك عقدة الرواية.
جاد سيجد فرصة عمل. جوانا ستترك شقّة طليقها لإنتفاء مبرّر سكنها فيها. مارغريت ستستأثر بها رحمة الله في عزّ تفشّي جائحة الكورونا. وستمضي بلا مراسم تعزية. أيّوب سيبقى في المنزل وحده، وليس في مصحّ كما كانت تُمنّي النفس والدته. جوانا ستلتقي أخيراً فيليب الذي إختفى إثر تعرّضه لحادثٍ بُتِرت جرّاءه أصابعه. ووليمةُ العرس سيُدعا إليها أولاد جومانا، وأحفادها، في مفاجأة ستُذهلها .
وبين ما هو خطأ، وما هو خطيئة، تبقى الكثير من الأسئلة التي تدور في ذهن جومانا بخصوص علاقة مارغريت بعائلتها بعد فقدانها المُبكر لزوجها، وخسارتها لإبنها سمير في عزّ شبابه، وعلاقتها بنجلها أيّوب، وبإبنتها کامیلیا، وبكبريائها هي الشخصيّة كأنثى كان جمالها حديث الناس في الماضي، تبقى معلّقة في فضاء الرواية. شأنها شأن كلّ الأسئلة الخارجة عن نطاق العلاقات المُتبادلة بين شخصيّات العمل، والمتّصلة، على وجه التحديد، بإنفجار المرفأ، وبالحقيقة التي لا يُعرف إذا كانت ستُعلن، ذات يوم، أم ستبقى مطموسةً ؟!
وبعد، فالحياة جميلةٌ. والوطن هو الحاضن الأوّل، والأخير.
وعلى أمل أن تُصان الحياة، ويُصان الوطن، تمسح لونا قصير قلمها.
في الشخصيّ تتعامل في روايتها مع الفرد كملحمة كفاح ضدّ المجتمع. وفي العام كملحمة كفاح المجتمع
كفاح ضدّ المجتمع. وفي العام كملحمة كفاح المجتمع مع المحيط، وما هو أوسع من المحيط. دون أن تتخلّى عن الحبّ، ولا عن الصداقة، ولا عن الأسرة، كخشبة خلاص.
وفي حيرتها حيال الأسئلة التي تُراودها يتعذّر عليها تفسير الأشياء تفسيراً منطقيًّا. فالإيمان يبدأ، حيث ينتهي المنطق، كما قال کيرکغارد.
ولونا قصير مؤمنة.
وفي تسطيري لهذه الإنطباعات عن الرواية الوليدة لا أدري أين ينتهي التحليل، ويبدأ التخييل. لكن حسبي أنّني سُعدت بإنتصار الحبّ والصداقة، وبإستمرار الإيمان بالوطن، في وجه كلّ الأهوال المُتلاقية على إقتلاعنا من جذورنا، وجرفنا، ولفظنا خارج أحضانه الساحرة. والتي سبق وتكسّرت، وستواصل تكسّرها، على صخرة صمودنا على هذه الارض، وتحت هذه السماء.
Discussion about this post