تأليف … جيمس برستيد – عالم الآثار الأمريكي
تحليل دكتور … عاطف معتمد
هذا كتاب قرر الملايين في مصر الاطلاع عليه لكن قليلا منهم فعل، ويبدو أن هناك عدة أسباب من وراء ذلك.
(1) فالكتاب مراوغ في عنوانه، ذلك لأن كلمة “ضمير” يساء فهمها في ثقافتنا منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ولن نفهم المعنى الكامل لأطروحة “الضمير” إلا بعد الانتهاء من قراءة الكتاب كله البالغ نحو 550 صفحة.
(2) كما أن جيمس برستيد – عالم الآثار الأمريكي– انتهى من هذا العمل الرائد قبل ما يقرب من قرن مضى من الزمن وهو ما قد يجعلنا نتردد في القراءة أخذا في الاعتبار أن علم الآثار وتفسير تاريخ مصر القديم يتطور كل يوم وربما أصبح الكتاب “خارج الزمن” .
(3) بعد أن اتم ترجمةهذا الكتاب قدم المترجم – عالم الآثار المصري الشهير “سليم حسن” – للمكتبة العربية موسوعة ضخمة عن تاريخ مصر القديمة وهو ما قد يوحي للقارئ بأن سليم حسن قد عوضنا عن كتاب برستيد ولسنا في حاجة إليه.
ورغم هذه الأسباب الثلاثة يبدو لي – ولست مؤرخا ولا باحثا في الآثار – أن الكتاب صالح للقراءة اليوم في 2023 كما كان صالحا زمن تأليفه في عام 1933 وذلك للأسباب التالية:
(1) الضمير الذي يتخذه المؤلف عنوانا رئيسا هو معنى أشمل من “العقيدة الدينية” بل هو “أبو العقيدة”. الضمير الإنساني هنا هو ذلك النظام الأخلاقي الذي وضع قواعد لثنائية “الحق والباطل” وما يتفرع منها من كل فروع الأخلاق، الضمير المقصود في الكتاب هو الأب الشرعي للأديان الشهيرة وخاصة الديانة اليهودية، وأرض مصر هي تلك الأرض التي شهدت تفجر ينابيع ذلك الضمير (أو فجره).
(2) يرى برستيد أن ما يسمى الكتب المقدسة في الديانة اليهودية هي مجرد “أدب عبري” ويقصد بالأدب هنا مجموعة من القصص والأشعار والتعابير البلاغية التي يبدو أنها مستوحاة إن لم تكن “منتحلة” حرفيا من نصوص مصرية قديمة عرفها العبرانيون خلال إقامتهم في مصر.
وإذا صدقنا نظرية برستيد على اليهودية فلابد أن يشمل ذلك بقية الأديان الثلاثة، فالمسيحية امتداد، كما أن الإسلام أحدث الأديان الثلاثة ولابد أنه – وفق هذه النظرية – قد تأثر بهما.
(3) رغم تقادم معلومات الكتاب منذ تاريخ صدوره مقارنة بما توصلت إليه علوم المصريات اليوم إلا أنك لا تشعر أنه فقد قيمته. فقد صنع المؤلف – بخبرة الباحث الذي أفنى عمرا –من التفاصيل الصغيرة مفاهيم أوسع وأشمل.
فلقد قارن برستيد مثلا بين إنسان العصر الحجري في مصر وصراعه الدامي مع بني جنسه ومع الحياة وما يقوم به إنسان الحرب العالمية التي انتهت بخسائر بشرية فادحة (لم يكن يقال وقتها الحرب العالمية “الأولى” لأن أحدا لم يكن يتوقع نشوب حرب عالمية تحمل اسم “الثانية”).
(4) بتسلسل مدرسي يستهل المؤلف كتابة بتفكيك لغز الآلهة المصرية. وكأنه أستاذ في حصة مدرسية يبين للطلاب بلغة سهلة وأمثلة بسيطة كيف ظهر أول إلهين معبودين في مصر استجابة للجغرافيا الطبيعية حيث رع إلها للشمس وهي الظاهرة الفلكية الأكبر تأثيرا على حياة مصر وحيث أوزير إلها للنيل وبالتحديد إلها للخضرة والخير والنماء الذي يجلبه النيل.
من هذين المعبودين يأخذنا المؤلف بالتدريج إلى كيفية انبثاق الآلهة المصرية والصراع عليها وإعلاء رتبة هذا على حساب ذاك.
(5) يعد الكتاب عملا مبكرا ورائدا في فحص “الأدب المصري القديم” وهو مجال لا يلقى اهتماما كبيرا إلا من ثلة من علماء الآثار مقارنة ببقية فروع علم المصريات.
وبتركيزه على الأدب المصري تنكشف أمام برستيد مصادر استلهام الكتب العبرانية المقدسة من النصوص المصرية بل وبعض استشهادات من بلاغة العهد الجديد في المسيحية أيضا.
(6) الكتاب أيضا يعالج فكرة غامضة ولكنها على درجة عالية من الأهمية وهي كيفية صناعة الضمير العام للشعب المصري؟ كيف صاغ مجموعة من أصحاب الرأي الثاقب والحكماء والفلاسفة الصيغ الدينية والأخلاقية التي حددت ما هو الحق وما هو الباطل؟ وكيف انتقلت معايير النظام الأخلاقي من هذا المستوى الرفيع الذي انشغلت به شريحة محدودة في قمة الهرم المجتمعي إلى جنبات الشعب المصري ليصبح أول شعب اخترع الأخلاق التي هي أساس الأديان التي تلت بما فيها حتى فكرة التوحيد الإلهي ونبذ شراكة الآلهة المتعددة .
بدهي أن الكتاب قد لا يعجب أهل التخصص بعد نحو قرن من زمانه وأفكاره لكنه مفيد جدا في القراءة بل و”إعادة القراءة” فهو من تلك الكتب التي تفهم منها أفكارا في سن العشرين ثم إذا قرأته في سن الأربعين تجلت لك مفاهيم أخرى وربما قراءة ثالثة في الستين تقرب إليك بعضا مما لم يكن واضحا في المرة الأولى.
الكتاب في نسخة كاملا PDF من هذا الرابط
https://www.hindawi.org/books/30704240/
Discussion about this post