بقلم دكتور … عاطف معتمد
في الحرب الروسية الدائرة حاليا في أوكرانيا يتكرر لدى المنظرين من علماء الجغرافيا السياسية وبين القوميين الروس مصطلح “مالو- روسيا Malorussia ” أو “روس الصغرى Малая Русь” في إشارة إلى أوكرانيا.
هذا المصطلح الخطير الشائك مرفوض على الجهة الأخرى من القوميين الأوكران ويعتبرونه من ميراث التاريخ.
صحيح أن الجغرافيا لا تعيش من دون تاريخ لكن الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك وتعديل الحدود تقع في شر مستطير إذا اعتمدت على التاريخ في قلب خريطة العالم رأسا على عقب وستندلع حروب دموية ونووية مهلكة في كل ركن من أركان الأرض.
“روسيا الصغرى”: مصطلح تاريخي وإداري تكون قبل عدة قرون خلال صراع روسيا مع القوى المنافسة في أوروبا غربا والدولة العثمانية جنوبا.
لكن الحقيقة أن جذور هذا المصطلح بدأت منذ نهاية الحكم المغولي وظهور إمارة موسكو الحديثة ولاسيما في القرنين 13 و 14، حين بدأت هذه الإمارة تنمو بالتدريج وتصبح القيصرية الروسية العظمى وتتحول لاحقا إلى إمبراطورية كبرى.
وتذهب بعض الدراسات إلى أن مصطلح “روسيا الصغرى” لم ينشأ إلا في القرن 14 كتعبير ديني مسيحي إداري ولا علاقة له بالسياسة والجغرافيا..
فالروس الذين اعتنقوا المسيحية في القرن العاشر – بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من اعتناق الإسلام ! – أسسوا كنيسة أرثوذكسية في تقليد مباشر للكنيسة البيزنطية في إمارة موسكو الكبيرة، في مقابل قيام كنيسة أصغر إلى الغرب من نهر الدنيبر في الإقليم التاريخي “جاليتشا” والذي يقع اليوم غير بعيد عن المدينة الأوكرانية الشهيرة “لڤيڤ” قرب الحدود مع بولندا.
وفق هذا الرأي فإن “روس الكبرى ” في مقابل “روس الصغرى” كان مصطلحا يشير إلى أعداد المؤمنين أو التابعين للعقيدة الأرثوذكسية في الإقليمين وليس له مغزى جيوبوليتيكي كما يظن كثير من النقاد.
ويدعم هذا الرأي أننا في جغرافية مصر قبل الإسلام كنا نعرف التقسيم الإداري في العصر البيزنطي وفق “الأبرشيات المسيحية” وكانت الأقاليم المصرية خاضعة في جزء منها للتنظيم الإداري وفق حجم الأبرشية وعدد المعتنقين فيها.
غير أن مسمى “روسيا الصغرى” سرعان ما اندثر واختفى لعدة قرون جراء اختفاء الأثر البيزنطي وصعود التأثير العثماني الإسلامي الذي استولى أصلا على بيزنطة وحول عاصمتها من عاصمة ديار المسيحية إلى عاصمة ديار الإسلام.
ومع الصراع بين بولندا وروسيا في القرن 18 قام بعض قادة المقاومة الأوكرانية للاستعمار البولندي بعقد تحالف مع روسيا، ومن ثم عاد مصطلح “روسيا الصغرى” ليكتسب هذه المرة صفة جغرافية سياسية وجيوبوليتيكة ومعبرا في نفس الوقت عن حقيقة ضعف أوكرانيا وحاجتها للحماية فلجأت إلى الشقيقة الكبرى: الإمبراطورية الروسية.
سيتوغل مفهوم “الأخ الأكبر” لاحقا في التراث الشيوعي في القرن العشرين في علاقة روسيا بالجمهوريات السوفيتية الأربعة عشر التي كانت تتبع روسيا، باعتبار أن الأخ الروسي الأكبر هو الأكثر كرما وحكمة وسخاء وتقدما.
لكن ذلك سيتحول بمرور الوقت إلى شكوى هذه الجمهوريات من الأخ الأكبر الذي تحول إلى “الأخ المتسلط” أو المستبد الذي يريد فرض رأيه على الأشقاء الصغار وإبقائهم تابعين خاضعين لا نظراء ولا أنداد.
وبالطبع يمكن فهم الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا في جزء منها من زاوية العلاقات المتوترة بين الأخ الأصغر والأكبر، ولا سيما أن الأخ الأصغر هنا وجد مؤيدين وداعمين من أعداء متربصين بالأخ الأكبر (في الناتو الأوروبي والأمريكي).
في جغرافية مصر لدينا مصطلح شهير شبيه عرف باسم “مصر الصغرى” ويقصد به شبه جزيرة سيناء. وكان الفضل لعالم الجغرافيا العظيم جمال حمدان في نشره بين عموم المثقفين من غير المتخصصين، وإن كان المصطلح كان معروفا من قبل في دائرة أكاديمية أصغر.
لماذا تعد سيناء “مصر الصغرى” ؟
🔹 تمثل سيناء نموذجا مصغرا في كل جغرافية مصر الطبيعية، لا يوجد أي إقليم جيولوجي وبنيوي في مصر إلا ونجده في سيناء، فالأقاليم كلها التي كونت مصر قبل مئات ملايين السنين (نعم..مئات ملايين السنين) ممثلة في أرض سيناء كما هي ممثلة في بقية الأراضي المصرية.
🔹 تجمع سيناء جغرافية مصر الطبيعية في أصغر مساحة ممكنة اختزالية ومدرسية بالغة الوضوح، فهي تجمع البحرين الأحمر والمتوسط معا، وتجمع الجبل والهضبة والسهل الرملي وتجمع الحضر والبدو والريف.
🔹 لا ينقص سيناء سوى نهر متدفق لكي تصبح نموذجا مصغرا لمصر في بيئتها الفيضية (وهذا ما جعل منخفض الفيوم منافسا لها في صلاحية “مصر الصغرى”) ، صحيح أننا اليوم لا نرى أي أثر لنهر النيل في سيناء، لكن قبل ألفي سنة على الأكثر كان النيل يصل إلى شمال سيناء متدفقا من رأس الدلتا ومارا بشرقها الصحراوي ليصب في شمال غرب سيناء عبر مصب عظيم كان يجلب الماء العذب إلى البحر المتوسط السيناوي عرف باسم الفرع “البيلوزي” وبالوظة اسم اطلقه اليونان على هذا الفرع النيلي وتعني الكلمة في اليونانية “لزج القوام” في إشارة إلى الطين اللزج الذي يحمله نهر النيل إلى شمال سيناء. ومن هنا جاء الاسم العربي “سهل الطينة”.
🔹 سيناء هي التصغير الاستراتيجي لكل ماض مصر العسكري وحاضرها ومستقبلها. بسبب سيناء خاضت مصر حروبا مع الأعداء من الهكسوس وأسلافهم وأحفادهم، ومع الصليبيين والمغول والترك والمماليك والفرنسيين والإنجليز وإسرائيل …وستظل هكذا في مصير لا مفر منه.
🔹 سيناء بها أهم المناجم التي تغذي مصر اقتصاديا في الماضي كما في الحاضر. لم يكن قدماء المصريين يعرفون سيناء باسم الطور أو سيناء بل كان اسمها “بيا” أي “أرض المعادن الوفيرة”.
🔹 قبل 120 سنة فقط كادت مصر تخسر سيناء كلية بسبب أطماع الدولة العثمانية في سلخ سيناء عن مصر ومنحها لإقليم الحجاز التابع لها، وكاد خديو مصر وقتها عباس حلمي الثاني أن يخضع لهذه الضغوط لولا مساندة قوية – للمفارقة الساخرة – من الاحتلال الإنجليزي الذي وقف لأطماع تركيا بالمرصاد كي يضمن لنفسه أطماعا حصرية في مصر وسيناء.
ما الذي فعلته في هذا المقال؟ كيف سمحت لنفسي أن أبدأ بحديث عن “روسيا الصغرى” فأنعطف كعادتي إلى دهليز آخر فأتذكر سيناء العظيمة: “مصر الصغرى”؟
عذرا أيها القارئ العزيز !
Discussion about this post