بقلم دكتور… عاطف معتمد
ابن عبد ربه…. يسافر إلى فرنسا !
في القرن الرابع الهجري ألف الأديب الأندلسي “ابن عبد ربه” كتابا أسماه “العقد الفريد” فيما يتجاوز 1200 صفحة.
الكتاب مستودع لكل طريف وجميل ومقنع ونادر ومهذب من “الآداب” العامة من حياة عرب الجاهلية وعرب ما بعد الإسلام.
في الأجزاء الثمانية لهذا الكتاب نعرف معنى “الأدب” كطريقة لتربية الإنسان وتقويم سلوكه وتنمية وعيه بحسن القول والعمل في كافة أركان الحياة، ولا سيما في التعامل مع الملوك والأمراء والشعراء والأصدقاء والخلان، والكرم والبخل، والحلم والحماقة، والتسامح والتكبر، والغوغاء والثقلاء، والتفاؤل والتطير، وإبداء الرأي والمشورة، وأصول البلاغة العربية.
ورغم أن المؤلف أندلسي الموقع والتكوين الفكري إلا أن كثيرا مما استشهد به جاء من بلاد المشرق ولا سيما في العهدين الأموي والعباسي.
وبعد نحو ألف عام من صدور هذا الكتاب قام الأديب المصري الرائد توفيق الحكيم بالعكوف على الكتاب لاقتناص بعض جواهره.
وبينما هو يفعل ذلك جاءته رحلة إلى جبال الألب الفرنسية، وكان المسموح به للسفر قليل من المتاع، واضطر لأن يفاضل بين أن يحمل هنداما إضافيا جميلا وأن يحمل كتاب ابن عبد ربه، فاختار الأخير.
في حدائق الألب الفرنسية كان الحكيم يحب الجلوس لقراءة ما كتبه “زميله” الأديب ابن عبد ربه. وبينما الفتيات الحسان يطفن حول الحكيم ويتشاركن اللعب والحب مع الفتيان كان “ابن عبد ربه” هو أنيس الحكيم الوحيد في رحلته ورفيقه.
صب الحكيم لعناته على ابن عبد ربه الذي حرمه الأنس مع الفتيات الحسان، لولا أن فاتنة أثار فضولها ذلك الخط العربي الغرائبي الفريد في كتاب ابن عبد ربه فأخذت تتودد إلى الحكيم وتم التعارف بينهما، وبالتالي عوض ابن عبد ربه خسائر الحكيم الأولى وقدم له في النهاية فرصة جميلة بالتعرف على الحسناء الفرنسية.
هذه الحكاية التشويقية هي المدخل للكتاب الذي بين أيدينا والذي يحمل عنوان “تحت المصباح الأخضر” في إشارة إلى المقالات التي كان يكتبها الحكيم ليلا في ضوء مصباحه من وحي ذاكرة السفر والتعرف على الناس والحياة.
كتاب الحكيم صغير الحجم فيما لا يزيد عن 110 صفحة ويضم 17 مقالا نشرها أول مرة عام 1942.
مقالات الحكيم هنا تندرج تحت باب الإمتاع اللغوي والفلسفي الهادئ دون أية مفاجآت ولا صدمات ( على نحو ما يفعل بنا العقاد مثلا) ولا إرهاق لغوي ومعجمي (كما يفعل بنا طه حسين مثلا).
بعض مقالات الكتاب بالغ الدلالة على الوضع السياسي لمصر قبل عام 1952. فنكتشف في الكتاب أن الحكيم ألف مسرحية شعرية تم تمثيلها في دار الأوبرا الملكية احتفالا بزفاف الملك فاروق في يناير عام 1938. حين كان ملكا شابا لم تشوهه إشاعات الانحراف التي ألصقت به لاحقا.
في هذه المسرحية يشارك كبار الأدباء المصريين بكلمات التهنئة من شعر ونثر احتفالا بزواج الملك الشاب، نعرف من الحكيم أن من أبرز المشاركين في الإلقاء في هذه المسرحية: العقاد، خليل مطران، أحمد أمين، المازني، الهراوي، والبشري.
كتاب الحكيم الرشيق الصغير بضم أيضا آراءه عن المرأة المصرية التي كانت في تلك الفترة لا تحظى بإعجاب الحكيم مقارنة بالمرأة الأوروبية، يدلل الحكيم على أن أعظم أدباء مصر في عصره تأثروا بالمرأة في أدبهم وأفكارهم، وكانت المرأة ملهمة لهم، لكن لم تكن من الأمثلة التي ضربها امرأة مصرية، بل كلهن أوروبيات.
في النقد الأدبي يذهب بنا الحكيم إلى أن قصة “روميو وجوليت” للأديب الشهير وليام شكسيبير تكاد تكون مستوحاة حرفيا من حكاية شرقية سابقة عليها بخمسة قرون جاءت في كتاب “الشاهنامة” الذي وضعه الشاعر الفارسي الكبير “الفردوسي”. والقصة تحمل في نسختها الأصلية علاقة الحب التي جمعت الشاب “دستان” والحسناء “روذابة”.
ورغم ما في الكتاب من ثراء وتنوع إلا أنه خفيف لطيف لا يستهلك منك أكثر من ثلاث ساعات.
أما كتاب ابن عبد ربه الذي افتتح به الحكيم حكاياته ، فمتوفر اليوم على الإنترنت في نسخ PDF ولابد لكي تعيش معه وتصبر عليه من أيام متتابعات تتفرغ فيها من كل شيء وترحل بالزمن إلى ألف عام مضت، وإن كانت الفائدة مضمونة والرحلة مأمونة والثروة اللغوية غزيرة ومثيرة.
Discussion about this post