المكان الجغرافي تركيب أرضى أصم، ولا يتغير جذريا إلا عبر ملايين السنين، بمعنى أن المكان بنية طبيعية دائمة إذا قسناها بعمر الإنسان… أحيانا تصبح للمكان أهمية لفترة طويلة، وأحيانا يكون غير مهم لفترات أطول… الفيصل في الإختلاف هو كيف يقرأ الناس مواصفات المكان حسب مفاهيم وتكنولوجيا عصرهم… فبدون ناس لا عبقرية لصخر يحتوي على الذهب إذا لم تكن للذهب قيمة لديهم، أو إذا إحتوي الصخر على مادة مشعة غير معروفة لهم، فتصبح
” تابو ” إذا كانت تقتل أي كائن حي يتعرض لإشعاعها…
” العبقرية ” والأفضل ” الأهمية ” صفة بشرية تفلسف قيمة المكان حسب القدرات الفكرية والتقنية ومدي الإفادة منها… فمثلا عندما تمكن الفراعنة من وصل البحر الأحمر بأحد فروع دلتا النيل فهل كان لذلك ذات المردود العالمي لقناة السويس الحالية؟ وحين كان مناخ مصر مطيرا قبل عشرة آلاف سنة كان سكان مصر منتشرين في كل أرجائها دون تركيز سكاني في حيز ضيق حول النيل كما حدث عندما بدأ عصر الجفاف منذ نحو الألف السادسة قبل الميلاد.
الجغرافيا أبدا ليست كما يظن الكثيرون : تضاريس وإحصاءات ومعلومات وخرائط، الجغرافيا تمتد إلى علم الإنسان ” الأنثروبولوجي “… الجغرافيا إذن بدأت قبل بضعة آلاف من السنين، مع التجار والقوافل وسفن الشراع وزادت بنشأة الدول… التجارة والرحلة جوانب مشتركة لنمو المعرفة بإختلاف الأقاليم والمجتمعات، ومن ثم نشأت النظرة الجغرافية لمشتملات أرض وإنسان معا… عادة الإنسان أسرع تطورا في مجمل حياته المادية والفكرية من أي عناصر طبيعية… الجغرافيا أبدا لا تستوي دون شراكة بين إنسان متحرك مفكر على الأرض، وتصبح نشاطاته فروعا للإطارين الكبيرين : الجغرافيا الطبيعية، والجغرافيا البشرية، أو تفصيلا الجغرافيا الإجتماعية وجغرافيا السكان، والسكن والجغرافيا السياسية، وجغرافيا النقل…. إلخ…. فلا مناص للمعرفة بالجغرافيا من العلوم الإنسانية. من ذلك الموروث والمحدث النابع من تراتب التاريخ الإجتماعي للإنسان.
المدينة منذ زمن بعيد كانت أساس نشأة الدولة، بما عرف باسم دولة المدينة، وكانت أشيعها في حضارات أنهار الشرق الأوسط، بين مصر وسومر وبابل وفينيقيا واليونان وحضارة السند في مدينتي هارابا وموهانجدورو، وحضارة الصين على
” الويي ” رافد نهر ” هوانج هي “… وتحاربت المدن فيما بينها للحصول على أراض وموارد أوسع، فمثلا تشكلت مدن الصعيد مقابل مدن الدلتا، ثم وحدتها كلها دولة الجنوب، وفي سومر دولة أكاد التي توحدت في بابل الأولى، لكن فينيقيا واليونان ظلتا دول مدن طوال تاريخهما، ونادرا ما توحدت في حالة حرب ضد غزاة جدد من وسط آسيا يتفوقون بعدد حربية أفضل من النظم الحربية القديمة ( مثلا دخول الفرسان والعربة الحربية في الآلف الثانية قبل الميلاد كسلاح أكثر قدرة على إختراق صفوف المشاة )… ولفترات تشكلت ممالك واسعة كمصر في عهد الدولة الحديثة والملوك المحاربين ( أشهرهم تحتمس 3، ورمسيس 2 و 3 ).
ومن نشأة الصناعة وإلى الآن إتحدت عدة مدن في كل دولة فكونت إمبراطوريات واسعة كفرنسا وإسبانيا وبريطانيا والنمسا وألمانيا… وفي المستعمرات إستمر نمط المدن الكبرى مقابل ضعف مدن الريف… والآن نعاني من كثرة المدن، ففي الدول المتقدمة يزيد عدد سكان المدن 65٪ من تعداد الدول..
… مثلا سكان طوكيو الكبرى 30 مليونا، والقاهرة الكبرى أكثر من 20 مليونا…. إلخ، ما يتطلب طاقات وأسواقا ومدارس وأنظمة صحية وإتصالات… وفي الدول النامية كثيفة السكان
، إشكالية الهجرات غير الرسمية كثيرة الضحايا من الجنوب للشمال التي ساعدت على ظهور اليمين الإستعلائي بقوة في الشمال بشكل مخالف لقيمه الديمقراطية المناهضة أصلا للعنصرية ضد ذوي البشرة السمراء، وتحولت أخيرا إلى عنصرية أصحاب الوفرة والغنى الشمالي.
Discussion about this post