بقلم دكتور.. عاطف معتمد
أخذت الصورة المرفقة في عام 2013، من رحلة ميدانية في الشطر الغربي من شبه جزيرة سيناء. كنت قد توقفت مع دليلي البدوي لتناول شاي الصباح الباكر قبيل استكمال مسيرتنا إلى هضبة التيه.
أما عنوان المقال “العطشانة تكسر الحوض” فمثل بدوي شهير عند قبائل سيناء وصحراء النقب في فلسطين.
ينبهنا هذا المثل بأن نتعامل بحذر ورفق وانتباه وحيطة مع الناقة التي أصابها عطش من سفر طويل.
هذه الناقة إذا ما وجهتها مباشرة إلى حوض المياه في مستقر الرحلة فإنها ستقبل عليه إقبالا شديدا مدفوعة بعطش كل الأيام والأسابيع الماضية، وفي حركة رعناء غير مقصودة ستكسر الحوض الفخاري وتنسكب المياه ضائعة في الرمال، وتحرم الناقة نفسها – من دون قصد – من الارتواء.
والمثل حين يضرب على الجمل في الصحراء يقصد به مجازا الإنسان الذي تتاح له فجأة فرصة الارتواء من حوائج كان محروما منها فترة طويلة، بل إننا نرى من الأمم والشعوب التي عطشت لسنوات طويلة – أو تم تعطيشها – تخرج فجأة إلى فرصة الارتواء بسلوك منفلت أرعن قد تكسر معه حوض الموارد ويضيع منها ما كانت تحلم به بل وتظل عطشى لسنوات مضاعفة مقبلة. وفي هذا خطر عظيم.
الأمثلة البدوية في الصحراء مستودع لحكم وخبرات الحياة. ولا يوجد حيوان كان ملهما للإنسان في صياغة حكمته مثل الجمل.
على مدار 150 سنة مضت، قام عدد كبير من المستشرقين والمستعمرين بدراسة القبائل في الصحاري المصرية. وجمعوا عددا هائلا من الأمثلة والأشعار عن الإبل ودورها في الحياة والاقتصاد.
كان تأسيس المستعمرات اليهودية في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر هو البداية لتأسيس دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين.
وفي ذلك تصدق النتيجة التي توصل إليها العالم المصري الشهير في الدراسات العبرية “محمد خليفة حسن” حين يقول إن إسرائيل هي “ابنة الاستشراق قبل أن تكون ابنة الاستعمار”.
في واحد من الكتب التي صدرت قبل 100 عام، يقول ضابط إنجليزي من عصر الاستعمار البريطاني ممن أوكلت لهم مهمة الحكم والإدارة في حرس الحدود المصرية إن “الجمل” عند البدوي هو إنسان كامل.
الإنسان الكامل او “الإنسان المناظر” فكرة تعززت عند كثير من علماء الاستشراق بعد تحليلهم العدد الهائل من الأفكار والمجازات والأمثلة الشعبية التي سيقت بحق الإبل.
عند أغلب المؤرخين، لم يظهر الجمل في الصحاري المصرية إلا في القرن الخامس قبل الميلاد ، وقد سبقه “الحمار” في تاريخ الحضارة المصرية الذي ينسب له أعظم الأفضال في الحمل والنقل والسفر وبناء الحضارة.
وخلافا للظلم الواقع على الحمار – باني الحضارة المصرية القديمة – يربط بعض الحمقى والجهلاء هذا الحيوان المكافح بالغباء والانسياق من دون وعي.
في المقابل يحظى الجمل بتقدير كبير دونما أية إساءة في أي فترة من فترات التاريخ.
ودعنا نضرب مثلا بأهمية الجمل التي لا تناظر مكانة الإنسان فحسب بل قد تفوق أهميتها !
يقوم جزء مهم من قوانين الصحراء على ردع جريمة القتل بالأخذ بالثأر، كانت النظم البدوية القديمة تطالب بقتل القاتل، رجل في مقابل رجل. لكن المدهش أنه في بعض الأوقات كانت القوانين أكثر صرامة مع الجمل.
بعض القبائل في سيناء والنقب فرضت فدية على قاتل الجمل بأضعاف الفدية المفروضة على قتل الإنسان.
في كتاب من عهد الاستشراق ظهر في عام 1930 يقول المؤلف الإنجليزي إن القبائل كانت تفرض دية القتل 40 جملا نظير قتل إنسان و4 جمال نظير قتل جمل.
لكن عشيرة من العشائر كانت تقدر جمالها تقديرا يفوق بقية القبائل جميعا وفرضت دية مناظرة لقتل الإنسان إذا ما تعرض أحد إبلها للقتل.
وفي واقعة من الوقائع الشهيرة فرضت هذه العشيرة دية كبيرة غير مسبوقة، إذ طلبت من القبيلة المعادية 44 جملا لمقتل واحد من جمالها.
وحفظا للدم اضطرت عشيرة قاتل الجمل دفع دية قتل إنسان كامل ” 40 جملا” علاوة على 4 جمال إضافية وقالت القبيلة التي تلقت الدية : “40 جملا فدية تناظر دم الإنسان و4 جمال أخرى فدية مقتل الجمل”
وكأن الجمل هنا “إنسان + جمل”.
إن قراءة وتحليل مثل هذه الوقائع قد تدعو إلى السخرية بعد مرور نحو 100 سنة من حدوثها ولو فعلنا ذلك لوقعنا في خطأ كبير.
التاريخ البيئي وعلاقة الإنسان بالحيوان في الصحاري المصرية والعربية تأسس بعد قرون طويلة من التفاعل الإيكولوجي المتبادل وصيغت القوانين من رحم تلك العلاقة.
.
Discussion about this post