بقلم دكتور … عاطف معتمد
أخذت الصورة المرفقة الربيع الماضي من عمق الصحراء الشرقية، في منتصف المسافة تقريبا بين البحر الأحمر شرقا ووادي النيل غربا.
في الصورة نوع من التجمعات الرملية التي يمكن تسميتها “كثبان ذيلية”.
فالرمال هنا تجمعت في شكل ذيل طويل خلف عقبة صخرية.
العقبة الصخرية هي البطل، ومن ثم يطيب لبعض الباحثين تسمية هذه التجمعات الرملية باسم “كثبان العقبات”.
عادة ما تأخذ الكثبان الذيلية بوصلة اتجاه في الصحراء. فمعروف أن الرمال هي نتاج دفع الرياح، ولأن رياحنا السائدة في مصر شمالية في معظمها (بتنويعات ما بين الشمال الغربي والشمال الشرقي)، فإن هذه الكثبان الذيلية تعطيك الاتجاه دون عناء، فالرأس (خلف العقبة مباشرة) تمثل الشمال بتنويعاته، ولا سيما الشمال الغربي، بينما يتجه الذيل (حيث السيارة) نحو الجنوب بتنويعاته، ولا سيما الجنوب الشرقي.
حافة هذا الكثيب الرملي الذيلي حادة كالسيف ولذلك يطيب لبعض الباحثين تسمية هذه الغرود أيضا باسم “الكثبان السيفية”.
ولأنها تنثني وتلتوي فإن البعض يشبهها بالثعبان أو الحنش، ومن ثم تكثر أسماء الحنيشات والحبال (الثعابين) لوصف هذه الغرود.
في بعض الأشكال المتطورة الكبيرة التي تمتد لعدة كيلومترات تعرف هذه الكثبان باسم “الدراع” لأنها تشبه الذراع الممدودة في الصحراء.
لكنننا هنا أمام ظاهرة محدودة في الأبعاد وبالتالي فهي أقرب لأن تسمى “ألسنة” رملية وليست “أذرع” رملية التي عادة ما تكون مؤلفة من حقول ضخمة من كثبان طولية أكبر حجما وتضم في داخلها كثبان هلالية وأخرى مركبة.
حسنا! لماذا أعطيت مقالي عنوان “الصحراء الغربية في الصحراء الشرقية”؟
من المعروف أن الصحراء الغربية توصف في الكتب المدرسية بأنها صحراء “الهضبة والواحة” وفيما بينهما تجمعات رملية وغرود وكثبان بكل أشكالها المتنوعة التي تجعلها “بحورا” من الرمال.
في عام 1994 نظمت جامعة عين شمس (بريادة أ.د نبيل إمبابي وأ.د محمود عاشور) والجمعية الجغرافية المصرية (برئاسة الراحل الجليل أ.د صفي الدين أبو العز) مؤتمرا دوليا شارك فيه عشرات الجغرافيين الأجانب والمصريين.
لمدة أسبوعين في ترحال في الصحراء الغربية وقع الاختيار على شخصي المتواضع مع نفر من زملاء جيلي من طلاب الماجستير للمشاركة مع الأساتذة الكبار الأجلاء من المصريين والأجانب، وكان في طليعة الأساتذة المصريين أ.د علي عبد الوهاب شاهين من جامعة الإسكندرية والأستاذ الدكتور السيد الحسيني من جامعة القاهرة.
كنت أرى الجغرافيين الأوربيين المشاركين معنا في المؤتمر يفرحون ويلهون كالأطفال كلما توقفنا في الطريق أمام غرود رملية كالتي كانوا يقرأون عنها في الكتب المدرسية، لما لا وأوروبا لا توجد فيها هذه التكوينات المدهشة البديعة؟
في عام 2009 وبعد عودتي من زيارة علمية لبعض الكهوف الجليدية في سلوفينيا على الحدود الإيطالية أرسل لي أحد الزملاء الأجانب صورة أقف فيها فرحا كالأطفال أمام هذه الظاهرات التي لا تعرفها بلادي ولم أعرفها من قبل.
هذه هي الجغرافيا، توزيع متنوع في الظاهرات بين هذه القارة وتلك. وما يفتقده هذه الإقليم يعوضه إقليم آخر. والخبير الوقور في وطنه يبدو طفلا متهللا في أوطان جغرافية أخرى.
لكن الصورة التي أعرضها عليكم اليوم لا تقع في الصحراء الغربية – مرتع بحور الرمال – بل في قلب الصحراء الشرقية.
تعرف الصحراء الشرقية بأنها صحراء الجبال والقمم الشاهقة والوديان العميقة والسيول العنيفة.
لا يمكن لطالب جامعي في أقسام الجغرافيا في مصر أن يخبرك أنه تعلم شيئا عن التكوينات الرملية في الصحراء الشرقية، بل كل الرمال تقع بشكل حصري في الصحراء الغربية.
لكن الحقيقة أن هذه معلومات عامة وقديمة وتحتاج إلى تحديث وتفصيل.
فالصحراء الشرقية أيضا تضم بحور رمال، أكبر هذه البحور في جنوب شرق مصر على الحدود مع السودان الشقيق، في الإقليم المصري الشهير “حلايب” الذي يضم أهم حقل لغرود الرمال ويسمى حقل الحبال، وكما أشرت في مقال سابق فإن الحبال هي دلالة على الكثبان الطولية.
وإذا كان الكثيب الذيلي الذي يظهر في الصورة هنا يقاس بعشرات الأمتار فقط فإن الحبال في حلايب تقاس بعشرات الكيلومترات، حقل فسيح لا يختلف عن بحور الرمال في الصحراء الغربية.
أتمنى على بعض الباحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراه أو طلاب الماجستير والدكتوراه الانتباه إلى التكوينات الرملية في الصحراء “الشرقية” لأهميتها الاقتصادية والسياحية والبيئية.
بمثل هذه البحوث والدراسات يمكن الإجابة على الأسئلة التي تدور في خلدكم الآن:
لماذا تكونت هذه الرمال هنا؟ ومن أين أتت؟ وفي أي اتجاه تسير؟ وما المواقع الجغرافية التي تستحوذ عليها؟ وهل تمثل فرصة وأمل أم تعد نقمة وخطر؟
Discussion about this post