بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
ليلة طويلة بلا نوم قضيناها مابين مطارى القاهرة وجدة،بأحداثها المثيرة الممتدة منذ الحادية عشرة مساء الجمعة حتى حطت رحالنا بفندق الإقامة بمكة قرابة الثالثة مساء السبت، نعم ليلة امتدت بلا نوم منذ غادرنا منزلنا بالقاهرة على امتداد سبع عشرة ساعة، ولم يكن لنا على أجسادنا من سلطان فقد فرض سلطان النوم قانونه على من استجابوا للإثارة وعاشوها دون أن يغمض لهم جفن أرضا وفضاء فأرضا وحافلات وتضاريس جغرافية تأخذ بالأبصار، وحملتنا المصاعد إلى حجرات الإقامة وصلينا الظهر ثم العصر وألقى كل منا بنفسه فوق سريره مستسلما لسلطان النوم واستعطاف الأجساد طلبا للراحة ومعظمنا يناهز الستين أو يتخطاها، لكن هذا المطلب العادل الملح لم يستطع أن يطغى على ضمائرنا الباطنة ورغباتنا الظاهرة بقطع تلك الأمتار القليلة التى تفصلنا عن الحرم المكى وشفاء عطش النفوس ورفرفة القلوب واشتياق العيون، وما هو إلا أذان المغرب حتى كنا جميعا نستعد للحظات فارقة فى العمر، وساقتنا جميعا رغبتنا المحمومة لقطع تلك الأمتار التى تناهز كيلومترا واحدا إلى هناك، وتسابقت رغباتنا فتفاوت وصول كل منا وزوجته رغم اتفاقنا على التحرك معا، لكن طريق أم القرى الواصل إلى المسجد الحرام والكعبة لاتسمح أجواؤه وازدحامه بالانتظار كى نتجمع، وما كدت أنزل وزوجتى حتى وجدنا رفاقنا قد سبقونا، فاقتفينا الأثر ومضينا نقطع الشارع الذى يرتفع شيئا فشيئأ مع أرضه ومنشٱته وأبراجه ليصل بنا إلى هضبة تهبط ثانية إلى أرض الحرم بفنائه المترامى ومئات الآلاف من الحجاج يتحركون هنا وهناك من ساحته إلى داخله مابين الكعبة وساحات المسجد الداخلية..
ياالله.. ياالله هانحن فى الساحة نتلمس خطواتنا الأولى سائلين حجيجا أو مستفسرين من الشرطة ورجال تنظيم هذه الحشود وتحركاتها، نسأل عن باب الكعبة وصحنها للطواف، نسأل من نتوسم فيهم معرفة اللغة العربية بقسماتهم الشرقية فنفاجأ بأننا أسأنا التقدير،نعم هم شرقيون قريبون فى ملامحهم منا لكنهم لايعرفون العربية وليسوا من أبنائها، يدركون لفظ الكعبة فقط فيشيرون إشارة عمومية، ونسأل بعض أفراد الشرطة فينشغل بعضهم بعمل حواجز لتغيير خطوط التحرك للحجاج، ويرد بعضهم ردا مقتضبا مشيرا إلى أى بوابة من بوابات الحرم العديدة، وأخيرا يرد واحد من رجال الشرطة يحمل رتبة دون الضابط ليقول لنا: باب 79 إلى الكعبة مباشرة ياحاجى(هكذا يخاطبون جميع الحجيج عربا وغير عرب )، ونبذل جهدا ملحوظا للوصول إلى الباب المقصود بفعل جهلنا بالمكان والأبواب وأيضا بفعل الحواجز التى يحركها رجال الشرطة بتحركات معينة تحدد مسارات الحجيج حسب حالة الزحام أو فى حالة منع الدخول من مسارات معينة. ماأصعب فكرة الحواجز هذه هنا فى بيت الله الحرام، وما أصعب نوعيات القائمين على تنفيذها من صغار أفراد الشرطة الذين يشبهون أداء أفراد الأمن المركزى وقوات فض التجمهر والشغب فى بلادنا العربية، انهم ينفذون بصرامة أوامر قادتهم دون نسبة مرونة أحيانا مع كبار السن والسيدات، وأتصور أن فكرة التعامل مع الحواجز هذه يتم تدريبهم عليها طويلا لتحديد مسارات حركة الحجيج بطئا وسرعة ومنعا أيضا.لكن يبدو أن النظريات واحدة!
وأخيرا هاهو باب79 أخذتنا إليه إشارة رجل الشرطة اللطيف نسبيا عن غيره، وانطلقت القلوب طائرة قبل الأقدام المتعثرة من تفرد اللحظة وخيالها الذى هبط على أرض الواقع، لبيك اللهم لبيك.. اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا، تنطق بها الألسنة فترتفع بها حناجر وتخون حناجر أخرى أصحابها فتخرج مندهشة مذهولة متقطعة، وترتسم على شفاه بعض ثالث فيتكلمون لغة الصمت ويضيع منهم الصوت..
هى الكعبة إذن وهاهم الطائفون يتلاحمون ويتباينون فى بداية طوافهم وأشواطهم واقترابهم من حجرها الأسعد وجدرانه السامقة رغم قلة ارتفاعها عن الأرض وهى التى ترتكز وسط الأرض بعمود ضياء يهبط من سماوات الخالق ليثبّت الأرض ويرسخ استقرارها بهذا الرابط الإلهى..
هكذا وجدت نفسي فى الحرم وبصحبتى زوجتى التى عاشت منذ اقتراننا على أمل هذا اليوم تتمناه وتطلبه وتسعد لقربه وتتألم كلما فاتت فرصته. الأمواج الهادرة كان علينا ان نذوب فيها طوافا ومن ثم اقترابا من ذلك الحجر الأسود بركن البيت الحرام الذى طالما هفت القلوب لملامسته، وهاهى ذى يقفز منها القلب سابقا اليد والقدمين نحوه وقد حال بينها وبينه أقدام سمراء لاتعرف التراجع عنه وتصميم أجساد قوية تدفع كل من يعوق طريقها وحدها إليه، هؤلاء السمر الأفارقة من بنى الإسلام يكادون لايتركون فرصة لغيرهم كى ينال تلك اللحظات الأسطورية باستلام واحتضان وتقبيل ذلك الركن العظيم من المناسك، يتدافعون فى تصميم ويقتربون زرافات ووحدانا ويدفعون كل اصحاب الأمل العظيم الجليل ممن تخذلهم أجسادهم عن نيل مرادهم هم الآخرين. لكن عزم الزوجة كان أقوى من خذلان الجسد وضعف المقاومة، وسط أفواج الناس من كل فج عميق وقد لبوا النداء أبيضهم وأسودهم وأصفرهم وأشقرهم وأحمرهم وأسمرهم، كلهم جاء راكبا الفضاء أو قاطعا للصحراء أو مجتازا عباب الماء متوجها صوب ذلك الهابط من السماء لاهم لهم سوى الاقتراب وتشمم وتلمس قطعة علوية ارساها الإله بيد أبى الانبياء.
لقد اخذتنى وزوجتى تلك الجموع الهادرة باقترابها وابتعادها وتدافعها وتزاحمها وتراحمها أيضا، وكان أكثر مايشغلنا مثل غيرنا ان نقترب ونقترب ونمد أيدينا، فاقتربنا حينا وابتعدنا حينا وتجمدنا مكاننا حينا وكدنا نسقط حينا حتى كانت اللمسةالأولى، مد وجزر فى أجلى صورهما، لا لبحر بل لمحيط فيه أمواج متلاطمة ودوامات متوالية.
كانت أول نظرة وأول لمسة تدشينا لتلك الرحلة الروحية الممتزجة بشتى أنواع المعاناة، لكنها المغلفة بأجمل مشاعر الحب والراحة والمتعة النفسية..
وتتواصل الرحلة واليوميات
Discussion about this post