بقلم … وسام محمد جواد
تنتاب المرء مشاعر الدهشة والإحترام والإعجاب عندما يقترب من حياة أو فكر إنسان إرتفع في سلم القيم حتى وصل إلى أعلى مرتبة، ونبغ في ميادين المعرفة فصار قبلة العلماء والمثقفين، وعاني في حياته المترعة أقسى أنواع التجارب بمحض إختياره عندما تنازل عن ثروته الضخمة إحتقارا منه لحياة الرفاهية والغنى الفاحش، فعمل مدرسا في القرى النائية وبوابا في أحد المستشفيات وبحارا وطيارا شراعيا وأستاذا جامعيا ونحاتا وعالما مخبريا وجنديا… إنه الفيلسوف النمساوي ” لودفيك فتغنشتاين ” ( 1889 _ 1951 ) الذي حير النقاد نظرا إلى ما جمع في شخصيته الإنسانية من سمات أخلاقية كانت رمزا عاليا، ومن مقدرات معرفية مذهلة كانت الأساس في تقويض الميتافيزيقا الغربية وإنبثاق تيارات الفلسفة العلاجية واللغة الجارية والوضعية المنطقية.
هذا الفيلسوف الكبير الذي ولد لأب عظيم الثراء كان صاحب أول شركة إحتكارية لصناعة الحديد والصلب في النمسا ولأم تمتاز بميول فنية قوية… كان لودفيك الإبن الثامن والأصغر في هذه الأسرة… ونشأ نشأة خاصة وتمتع بمواهب عدة، فيروي عنه أنه وهو في مرحلة الطفولة تمكن من تركيب آلة لحياكة الملابس نالت إعجاب الجميع، وأتقن العزف على الكلارينت وإمتدت معه هذه الموهبة طوال سنوات حياته الأخيرة… ويذكر كتاب سيرة حياته أنه كان يمتلك موهبة عجيبة في الصفير فقد كان قادرا على أن يصفر كونشرتو كاملا بدقة مدهشة… تلقى لودفيك تعليمه الأول في مدرسة لينتز في شمال النمسا، ثم درس الهندسة في برلين، وفي 1908م ذهب إلى مانشستر لدراسة الطيران، وأصبح شغوفا بدراسة فلسفة الرياضيات، وفي 1911م إلتقي بالعالم الرياضي ” فريجه ” الذي نصحه بالدراسة على الفيلسوف والعالم الرياضي ” برتراند راسل “، وقد قال راسل فيما بعد :
” إن بداية معرفتي بفتغنشتاين كانت أكثر مغامراتي العقلية إثارة طوال حياتي “.
ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى أن فتغنشتاين تتلمذ أيضا على الفيلسوف ” جورج إدوارد مور ” إلا أن مور سرعان ما قال : ” إن فتغنشتاين أعمق واذكى مني بكثير “، وقد صار مور فيما بعد يواظب على حضور محاضرات فتغنشتاين… المهم أن هذا الأخير إحتقر الحياة الأكاديمية فسافر إلى النرويج وعاش في عزلة مهيبة… وما إن نشبت الحرب العالمية الأولى حتى تطوع لأداء الواجب على الرغم من أنه معفي من الخدمة العسكرية لأسباب صحية، إلا أنه أصر على الإنخراط في الحرب دفاعا عن بلاده فكان ذلك… ثم أكمل مخطوطة كان عاجزا عن إنجازها فيما مضى ونشرت عام 1921م تحت عنوان : ” رسالة منطقية فلسفية “، أحدثت ضجة هائلة وتأثيرا دراماتيكيا في حينها.
*******************************
غالبا ماتقسم فلسفته إلى فترة مبكرة وتتجسد في “التراكتاتوس “، وفترة لاحقة فصلت بصورة رئيسة في التحقيقات الفلسفية… كانت ” الفتغنشتاينية المبكرة ” تعني بالعلاقة المنطقية بين القضايا والعالم، كان مؤمنا بأنه بتقديم تفسير للمنطق الكامن وراء هذه العلاقة، يحل كل المشكلات الفلسفية… لكن ” الفتغنشتاينية اللاحقة ” رفضت العديد من إفتراضات التراكتاتوس، بحجة أن معنى الكلمات يفهم على أفضل وجه كما هو إستخدامها في لعبة لغوية معينة.
إعتقد فتغنشتاين أن معظم المشاكل الفلسفية تقع بسبب إعتقاد الفلاسفة أن معظم الكلمات أسماء… وعلى سبيل المثال، طرح الفلاسفة التساؤل الآتي : ما الوقت؟ ووقعوا في حيرة شديدة، لفشلهم في الوصول إلى شئ اسمه الوقت… وقال فتغنشتاين : إن هذا هو الأسلوب الخطأ لكشف ماهية الوقت والمطلوب هو تحديد كيفية إستخدام كلمة الوقت… في جملة ” حان الوقت للذهاب إلى البيت ” يعرف معنى كلمة وقت… وهكذا فإن معناها مشكلة، ولا قيمة لكلمة وقت إلا بإستخدامها في جملة… ورأي فتغنشتاين أن هذه النظرة للغة تذيب المشاكل التقليدية للفلسفة، وقد أثر منهجه في التعامل مع اللغة على المثقفين في كثير من الميادين، تأثيرا ملموسا..
….كان لأفكاره أثرها الكبير على كل من ” الوضعانية المنطقية وفلسفة التحليل “، أحدثت كتاباته ثورة في فلسفة ما بعد الحربين… ورغم أسلوبه النتشوي المربك، فقد غير وجهة التفكير الفلسفي وطرق التعامل مع المسائل الفكرية.
على حد تعبير صديقه ووصيه الأدبي ” يوري هنريك فون فريغت ” فقد إعتقد أن :
” أسئ فهم أفكاره عموما وشوهت حتى من
قبل أولئك الذين زعموا أنهم تلاميذه… شك
أنه سيفهم على نحو أفضل في المستقبل..
قال مرة أنه شعر وكأنه يكتب لأشخاص
يفكرون بطريقة مختلفة… و يتنفسون هواء
مختلفا في الحياة… عن حياة الناس
الحاليين ”
*********************************
……. أثناء الحرب أوقعته القوات الإيطالية في الأسر وبعد خروجه من السجن عام 1919م آثر أن يعمل مدرسا في المدارس الأولية فدخل كلية المعلمين في فيينا لأجل هذه الغاية… وبالفعل صار أستاذا يمارس مهنة التدريس سنوات في قري نائية معزولة جنوب النمسا إلا أنه في العام 1926م شعر بإشمئزاز كبير من حياة التدريس فأقلع عنها نهائيا… وبعد ذلك إلتفت إلى عمل آخر وهو تصميم هياكل المنازل وإشتغل أيضا في نحت التماثيل… وفي عام 1929م نال درجة الدكتوراة عن مؤلفه ” رسالة منطقية فلسفية “، وفي 1936م سافر إلى النرويج، وهناك عاد إلى عزلته الهائلة المخيفة وبدأ بكتابة مؤلفه ” تحقيقات فلسفية ” الذي نشر بعد وفاته 1953م. بقلم وسام محمد جواد
Discussion about this post