بقلم الكاتب والأديب
هيثم فتحي
❞ سأسميه بنداري وقد أخترت هذا الإسم لبعده تماما عن الإسم الأصلي راجيا الله أن لا تنطبق الأوصاف على شخص ما يدعى بنداري موجود في الحقيقة … كان بنداري زميل دراسة في الكلية ولكن من دفعه أصغر مني بسنة أو اثنتين بأحد الأقسام بالمباني الخلفيه … شاب مهذب لأقصى الدرجات التي يسمح بها التهذيب … بشوش الوجه مبتسم دوما … كلاسيكي الهيئة والملابس … كان على درجة ما من التدين … كان دائم الصمت منفردا مختلفا عن الباقين … لم يكن منضم لأي تجمع شبابي أو شلة … لا يرتاد المقهى بجوار الكلية أو أي مقهى أخر … كان تقريبا بلا نشاطات تذكر … نموذج ثلاثي الأبعاد لمصطلح شخص عادي جدا …. لم تكن تربطني به أية علاقه سوى علاقة الزمالة البسيطة في نطاق المحاضرات … سلاما عابرا .. إيماءة رأس سريعه مع ابتسامه مرحبة … لا أكثر من ذلك.
في أحد أيام إمتحانات الميدتيرم العصيبة التي لم يكن لها أي فائدة سوى تذكيرنا بأننا نملك عضوا إسمه القولون … كنت مستندا إلى أحد شبابيك الدور الأول المطل على حديقة الكلية و المواجه لأحد المدرجات الفرعية التي سنؤدي بها الأمتحان غارقا في محاولة إقناع نفسي بعدم القفز من الشباك للهرب من د/لطفي أستاذ مادة ال Optics الذي كان متوعدا لنا بامتحان ناري مكتوب بيد ساحر مغربي … إقترب مني بنداري مبتسما وظل واقفا جواري صامتا تماما … مضت عدة دقائق حتى بدأ في الكلام وهو محتقن الوجه وقال لي ” عندي مشكلة كبيرة مينفعش أقولها لحد ومش عارف لقيت نفسي واثق فيك ليه ومحتاج رأيك “.
تركت الملخص الموجود بيدي معيرا أياه إهتمامي محاولا أن لا أبدو غير مبالي … أخبرني أنه يملك هبة ربانية أو ملكة خارقة للطبيعة حيث يستطيع أن يرى ما وراء أي شئ … وراء الجدران والأبواب والحواجز كأنها شفافه تماما … يرى كل شئ بوضوح تام وأنه لا يحتاج سوى التركيز فقط لمدة ثواني على الجدار أو السطح العازل ليرى كل شئ بوضوح تام.
مرت دقيقة أو أثنتين وأنا أحاول أن أخمن من الذي أرسل بنداري من أصدقائي كدعابة رخيصة وقديمه … قررت أن أفاجأه بخطوة هجومية سريعه غير متوقعة يعجز فيها عقله عن التصرف … قولت له “تعالى معايا بسرعه” … توجهت مسرعا وهو يعدو ورائي من المبنى الموجود به لمبنى أخر به طلاب قسم الميكانيكا الحادين الطباع والمتحفزين دوما … وصلنا لحائط أمام أحد جدران المدرج وطلبت منه وصف ما يراه … ظهرت على وجهه علامات الدهشه فهو لم يكن يتوقع ردة فعلي تلك كما توقعت … انتظرت أن يعترف أو يعتذر بأي سبب ولكنه استدار وأعطاني ظهره ونظر للحائط لمده ثواني.
” فيه ثلاثه قاعدين بالظبط ورا الحيطه معاهم مرجع كبير” … أخبرته أننا في كليه وأن احتمالات وجود إثنان أو ثلاثه يطالعوا مرجع هو احتمال لا يقل عن ٩٠٪ … بدأ يصف لي ملامحهم … ملابسهم … ألوان الملابس .. وتصفيفات شعرهم … تفاصيل كثيرة بدقة شديدة … طلبت منه أن يظل مكانه ودخلت من الباب الذي كان بعيدا … لن أستطيع أن أصف لك صدمتي وقتها … لم يخطئ في أي وصف ذكره من أشكال وهيئات وألوان.
رفض عقلي التصديق معللا ذلك بكونها مجرد ضربة حظ كبيرة أو أنه كان هناك منذ قليل بالصدفة … كررت المحاوله أربعة أو خمسة في أماكن متفرقة منهم مكانين خارج الكلية تماما بأحد الكافيهات وفي كل مرة يصف لي المشهد بدقه كبيرة جدا …. جلست معه على المقهي طالبا اتنين عناب مثلج … سألته ما السبب الذي جعله يخبرني بذلك السر الخاص به … أخبرني أن ما أخبرني به أمر عادي وأن مشكلته تكمن في تفصيلة أخرى غير رؤية ما وراء الجدران !!
إن كنت قد شاهدت فيلم أحمد حلمي كده رضا وأعتقد أن جميعنا رأه عدة مرات ستتذكر معي شخصية الضو الذي اشترى من رضا نظارة شمس خاصة تكشف ما وراء الملابس في إحدى عمليات النصب للتوائم الثلاثة … لقد كان بنداري يرى ما وراء الملابس حسب إدعاءه وأن تلك الملكة تختلف عن رؤيته لما وراء الجدران فهي ليست تحت تحكمه ولا تأتيه برغبته أو بتركيز منه ولكنها تظهر فجأه بلا سابق إنذار وبصورة عشوائية تماما.
كنت قد تسمرت في مكاني وأنا ممسك بكوب العناب منافسا لتمثال الحرية في ثباته بلا أي حركة … أخبرني بأن هذه هي مشكلته وأنه جاء يتحدث معي بسبب ذلك الموضوع … أخبرني بأنه رجل يصلي وأن تلك المشاهد تأتيه بلا سابق إنذار مما يؤلم ضميره بشده ويخشى أن يحاسبه الله على ذلك … أفقت من صدمتي وحاولت أن أكون عونا له وأخبرته أنه طالما تأتيه بلا تعمد وأنها خارجه عند إرادته فلا وزر عليه وأن عليه ان يستعين بالدعاء لكي يرفع الله ذلك العبئ عن روحه المثقله به … ارتاح بنداري للكلام الذي أعتقد أنه يعرفه ويفهمه لكنه كان يحتاج لرأي أحد أخر كطبيعه بشرية بنا جميعا.
سألته هل توجد علامات تدل على أنه في حالة استبصار كما أسميتها في الحالات اللا إرادية تلك … قال لي أنه في تلك الأوقات يكون ثابتا بلا حراك لا يرمش له جفن رأسه يميل قليلا لليمين أو اليسار … كان يحكي منغعلا ويتحدث بصورة سريعه جدا فهدأت من روعه وأخبرته أنه لا لوم عليه تماما.
حقيقة كنت أتحاشاه قليلا بقدر الإمكان طوال باقي سنوات الدراسه حتى تخرجت وهو كان لا يزال بالكلية … دارت الأيام وقابلته بالمصادفة سنة ٢٠٠٨م بميدان سفنكس ظهرا … وجدته أمامي وكان بشوشا كعادته … تصافحنا بحرارة وأخذنا في سؤال بعضنا البعض عن أحوالنا كما جرت العادة في تلك اللقاءات … نظرت إليه بتركيز وسألته “لسه الموضوع أياه عندك يا بنداري؟” … صمت قليلا وابتسم وقال لي أنه لم يعد يملك تلك الموهبة الغريبه من عدة سنوات مضت… حمدت الله وتحدثنا قليلا ثم صافحته لإلتزامي بمواعيد عمل … تركته مبتعدا بخطوات سريعه … إلتفت للوراء لأتأكد من أن مول سفنكس مفتوح في ذلك اليوم لأعود إليه بعد ساعات فوجدت بنداري واقفا في مكانه ثابتا بلا حراك ينظر لي لا يرمش له جفن مميلا رأسه لليمين قليلا … إلتفت للأمام كأنني لم أراه وأسرعت الخطى منهيا الشارع بأقصى ما أستطيع … اللعنه يا بنداري ❝
❞ ماوراء الجدران !! ❝
#فلان_الفلاني
#حكايات_رجل_أربعيني
Written by: Haytham Fathy – هيثم فتحي
Discussion about this post