عجائب القدر.
بقلم الدكتور ماهر جبر
كما أن في حياة كل منا سرُ لا يستطيع البوح به لأحد، بل لا يحب حتى مواجهة نفسه به، فإنه أيضاً توجد في حياتنا مواقف لا نستطيع نسيانها سواء مثلت لنا علامات مضيئة أو مظلمة، فعندما يُشرف الإنسان على نهايته تمر مراحل حياته أمام عينيه كطيف يداعبه سواء في أحلام نومه أو يقظته، وطبائع الإنسان متفاوتة فتقديره للموقف الواحد ليس واحداً، والحادثة الواحدة قد تؤثر في انسان فيبكي منها، ويضحك منها انسان آخر، ولا تؤثر في ثالث فلا يضحك منها ولا يبكي، إلا أن بعض هذه المواقف يكون ذو أثر إيجابي في حياته، ويظل يتذكرها على الدوام معترفاً لها بالفضل ربما لأنها مثلت عبرة وعظة له، أو ربما كانت أكثر من ذلك فغيرت طريق حياته كلياً، وبعضها الآخر ذو أثر سلبي يجعله ينفر من مجرد ذكره حتى مع نفسه، وليس كل ما يراه الإنسان نعمة ورحمة هو كذلك، وليس كل ما يراه نقمة وعذاب هو أيضاً كذلك، فقد يريد أحدهم أن يقدم لك السُم منقوعاً، فإذا به يسدي لك الخير كله، بينما يريد آخر أن يعطيك ما لا تصبو اليه أحلامك فيودي بك الى الهلاك، ذلك أن الأمور كلها بيد الله، وهكذا تولد الرفاهية والنعيم من كبد المعاناة، ويورث الفقر وضيق العيش من ثنايا الترف والتدليل، القصد أن المواقف التي تحدث للإنسان في مراحل حياته هي علامات بعضها يحاول تذكره ويحب الحديث فيه، والبعض الآخر لا يريد ذكره مطلقاً وإن كان الأثنين لا يمكن نسيانهما .
يحكي كاتبنا الساخر الكبير محمود السعدني حكاية ذات مغزى ذكرها له شعراوي جمعه أحد وزراء داخلية عبد الناصر، والذي يعتبره السعدني أفضل وزير داخلية في مصر منذ إنشاء هذه الوزارة، رغم كونه ضابط سابق بالجيش وليس شرطياً، يقول شعراوي جمعه إن حادثة وقعت له غيرت مجرى حياته تماماً، ذلك أنه أثناء دراسته الثانوية رسب مرة وقرر ألا يكمل دراسته، وأصبح بلا هدف واعتاد بذلك الوقوف على ناصية الشارع الذي يسكن فيه، وذات مرة رأى فتاة تسكن بجوارهم فأبدى إعجابه بها، فما كان منها إلا أن نظرت اليه قائلة وعلى وجهها وشفتيها ابتسامة ساخرة: الأفضل أن تهتم بمستقبلك بدلاً من وقوفك هكذا لا قيمة لك، يذكر شعراوي جمعه أن هذا الموقف رغم كونه مهيناً له إلا أنه نزل عليه كحجر إصطدم برأسه فأوقظه من غفلته، بالفعل ذهب الى البيت واهتم بدروسه ولم يعد لما كان فيه، حتى انتهى من العام الدراسي ونجح والتحق بالكلية الحربية، وظل يذكر لها ذلك شاكراً كلما تذكرها.
موقف آخر يحكيه الكاتب والأديب احمد امين في سيرته الذاتية(حياتي)، وهو من مواقف القدوة والتمسك بالمثل العليا، يقول: ان عاطف بركات باشا كان مدير المدرسة التي ألقىيت العلم فيها مدرساً بعد أن تلقيته فيها طالباً، وكان عاطف بركات قريباً لرئيس وزراء مصر في ذلك الوقت وهو سعد باشا زغلول، حيث كان سعد باشا خاله، يذكر احمد امين ان حمد الباسل أحد أعضاء الوفد وصديق سعد زغلول المقرب أراد أن يدخل ابنه المدرسة عند عاطف بركات، إلا ان الشروط لم تنطبق عليه، فرفض عاطف بركات طلبه، فوسط سعد زغلول في ذلك فرفض أيضاً طلبه قائلاً: ان باقي التلاميذ ليسوا أقارب وزراء ولا سلاطين، لكنه قريباً لهم جميعاً والمسئول عنهم، ومع ذلك لم يحتج سعد ولم يلجأ لإستخدام سلطاته كرئيس للوزراء وإنما شكره على موقفه وانصرف، يقول أحمد امين انه لم ينسى هذا الموقف طيلة حياته، وظل يذكره دائماً كنقطة مضيئة شكلت وجدانه، وجعلته ينتصر للحق والخير ويساند الضعفاء كلما وجد لذلك سبيلاً .
أما الدكتور احمد كمال أبو المجد فيذكر أنه لما سافر الى انجلترا لدراسة الدكتوراة، تصادف يوماً أن مر رئيس الوزراء من شارع كان يسير فيه وكان في دعاية إنتخابية والناس مصطفين على الجانبين، والأمن ينظم كل ذلك، وبينما هو كذلك اخترق الحراسة رجل وأمسك بملابس رئيس الوزراء قائلاً له أنت لص وجبان، فما كان منه إلا أن رد عليه بقوله قد أكون لص ولكني لست جبان وكشف له عن كتفه المصاب في الحرب دليلاً على شجاعته، في نفس الوقت دخل أحد الحراس للإمساك بهذ الرجل، فنهره رئيس الوزراء وطلب منه تركه لأنه يعبر عن رأيه وهذا حقه، فرد الحارس بقوله أنا لم أقبض عليه لما فعله معك، فهذا لا يعنيني وإنما لإخلاله بالنظام .
ظل الدكتور احمد كمال ابو المجد يتذكر هذا الموقف لما يحتويه من دروس كثيرة، فالرجل يبدي رأيه في رئيس الوزراء بكل حرية منتقداً وساباً له، ورئيس الوزراء لا يعترض على ذلك، وإنما يقف بجانب الرجل عند القبض عليه، والحارس لا يقبض على الرجل من أجل رئيس الوزراء، وإنما من أجل الإخلال بالنظام، والتساؤل ماذا لوحدث ذلك في احدى دول العالم الثالث ؟؟؟؟؟؟؟؟ نعم هذا هو سر تقدمهم .
وأخيراً فإن للشاعر الكبير مأمون الشناوي موقف غير طريق حياة صبي مكوجي ليصبح من أشهر شعراء الأغنية، تقول الحكاية أنه ذات يوم حينما كان مأمون الشناوي يستعد للتوجه إلى عمله، وجد في جيبه ورقة قرأها ليجدها كلمات أغنية رائعة، لكنه لم يكتبها، فمن أين جاءته ؟ .
فسأل الخادمة عن كيفية وصول الورقة إلى ملابسه، فأخبرته أنها تحب المكوجي الذي يرسل خطابات غرامية إليها في الملابس، وأنهما مختلفان منذ فترة، وأنه يحاول مصالحتها بهذه الكلمات، دُهش مأمون الشناوي وأرسل إليه يسأله عن حقيقة ما تقول الخادمة، فأكد صدق كلامها، فاتصل على الفور بصديقه الملحن محمود الشريف.
اجتمع الثلاثي وأخبر الشناوي المكوجي أنه سيقدم هذه الأغنية للإذاعة كي يغنيها أحد المطربين، وكان المطرب هو عبد الغني السيد، الذي أعجب بالكلمات وكذلك باللحن، ليقوم بعدها بتسجيل الأغنية في الإذاعة، والتي حققت نجاحاً كبيراً للغاية، وأصبحت أهم أغنيات عبد الغني السيد، والتي نذكرها ونغنيها حتى الآن، وهي أغنية “ع الحلوة والمرة” التي كتب كلماتها المكوجي، فمن هو هذا الشخص؟ أنه شاعرنا الكبير سيد مرسي وكانت هذه الأغنية سبباً في شهرته حتى كان يناديه الجميع (سيد مُرة) نسبة الى هذه الأغنية كما يقول الناقد الفني طارق الشناوي وهو ابن أخو الشاعر الكبير مأمون الشناوي.
هكذا تلعب أيضاً الصدف دوراً هاماً في حياتنا، فتنقلنا من الهاوية الى القمة، كما حدث مع الشاعر
Discussion about this post